باستقامتي ، وعسى الذي يشقّ سمعي وبصري ، أن يزيل عييّ وحصري ، فأعي ما تقصّان ، وأجتلي ما تنصّان ، وأجني ثمار تلك الأغصان ، فقد شاهدتما كثيرا من الحيوان ، يناغى فيتعلّم ، ويلقّن فيتكلّم. هذا والجنس غير الجنس ، فكيف المشارك في نوعيّة الإنس؟ فإن قلنا إن ذلك يشقّ ، فأين الحقّ الذي يحقّ ، والمشقّة أخت المروّة ، وينعكس مساق هذه الأخوّة ، فيقال المروّة أخت المشقّة ، والحجيج يصبر على بعد الشّقّة ، ولو لا المشقّة كثر السّادة ، وقلّت الحسادة ، فما ضرّكما أيها السيّدان أن تحسبا تحويجي ، وتكتسبا الأجر في تدريجي؟ فإنكما إن فعلتما ذلك نسبت إلى ولائكما ، كما حسبت على علائكما ، وأضفت إلى نديّكما ، كما عرّفت بمنتداكما. ألم تعلما أنّ المرء يعرف بخليله ، ويقاس به في كثيرة وقليله؟ ولعلّي أمتحن في مرام ، ويعجم عودي رام ، فيقول هذا العود من تلك الأعواد ، وما في الحلبة من جواد ، فأكسوكما عارا ، وأكون عليكما شعارا. على أني إذا دعيت باسمكما استريت من الادّعاء ، فلا أستجيب لهذا الدّعاء ، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان حين عرف الإدارة ، وأنكر الإمارة ، نعم أخوّتي أصحّ ، وأنّها بها أشحّ ، إلا أنّ غيري نظم في السّلك ، وأسهم في الملك ، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلّاب ، يشاركهم في البكا لا في التّراب (١) ، إن حضرت فكنتم في الإقحام ، أو لمقعد في زحام ، وإن غبت فيقضى الأمر ، وقد سطر زيد وعمرو. ناشدتكما الله في الإنصاف أن تريعا بواد من أودية الشّحر ، في ناد من أندية الشّعر بل السّحر ، حيث تندرج الأنهار ، وتتأرّج الأزهار ، ويتبرّج الليل والنهار ، ويقرأ الطير صحفا منتثرة ، ويجلو النور ثغورا مؤشّرة ، ويغازل عيون النّرجس الوجل ، خدود الورد الخجل ، وتتمايل أعطاف البان ، على أرداف الكثبان ، فيرقد النسيم العليل ، في حجر الرّوض وهو بليل ، وتبرز هوادج الرّاح ، على الرّاح ، وقد هديت بأقمار ، وحديت بأزهار ومزمار ، وركبتها الصّبا والكميت في ذلك المضمار ، ولم تزالا في طيب ، وعيش رطيب ، من قباب وخدور ، وشموس وبدور ، تصلان الليالي والأيام أعجازا بصدور ، وأنا الطّريد منبوذ بالعراء ، موقوذ في جهة الوراء ، لا يدني محلّي ، ولا يعتنى بعقدي ولا حلّي ، ولا أدرج من الحرور إلى الظّل ، ولا أخرج من الحرام إلى الحلّ ، ولا يبعث إليّ مع النّسيم هبّة ، ولا يتاح لي من الآتي عبّة. قد هلكت لغوا ، ولم تقيما لي صفوا ، ومتّ كمدا ، ولم تبعثا لبعثي أمدا. أتراه خلفتماني جرضا ، وألقيتماني حرضا؟ كم أستسقي فلا أسقى ، وأسترقي فلا أرقى ، لا ماء أشربه ، ولا عمل في وصلكما
__________________
(١) في الأصل : «التراث».