في حكمه ، وانتقل إلى حضرة الملك بانتقاله ، فنال ما شاء من اصطناعه وحظوته ، وجرى له هذا الرّسم في أيام من خلفه من ولده إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف تاريخ فقده.
وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصه (١) : إن طال الكلام ، وجمحت الأقلام ، كنت كما قيل : مادح نفسه يقرئك السلام ، وإن أحجمت ، فما أسديت في الثّناء ولا ألحمت ، وأضعت الحقوق ، وخفت ومعاذ الله العقوق. هذا ، ولو أنّي زجرت طير البيان من أوكاره ، وجئته (٢) بعيون الإحسان وأبكاره ، لما قضيت حقّه بعد ، ولا قلت إلّا التي علمت سعد (٣). فقد كان ، رحمه الله ، ذمر (٤) عزم ، ورجل رخاء وأزم ، تروق أنوار خلاله الباهرة ، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة ، ذكاء يتوقّد ، وطلاقة يحسد نورها الفرقد. فقدته (٥) بكائنة طريف (٦) ، جبر الله عثارها ، وعجّل ثارها.
حدّث خطيب المسجد الأعظم ، وهو ما هو ، من وفور العقل ، وصحة النّقل ، قال : مررت بأبيك بعد ما تمت الكسرة ، وخذلت تلك الأسرة ، وقد كبا بأخيك الطّرف ، وعرض عليه الحمام للصّرف ، والشيخ رحمه الله لم تزلّ قدمه ، ولا راعه الموقف وعظمه. ولما آيس من الخلاص وطلّابه ، صرفني وقال : أنا أولى به ، فقضى سعيدا شهيدا ، لم يستنفره الهول ، ولم يثنه ولا رضي عار الفرار عن ابنه.
شعره : قال في «الإكليل» (٧) : وكان (٨) له في الأدب فريضة ، وفي النّادرة العذبة منادح عريضة. تكلّمت يوما بين يديه ، في مسائل من الطب ، وأنشدته أبياتا من شعري (٩) ، وقرأت عليه رقاعا من إنشائي ، فسرّ وتهلّل ، وعبّر عما أمل ، وما برح أن
__________________
(١) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٤).
(٢) في النفح : «وجئت بعون ...».
(٣) أخذه من قول الحطيئة [الطويل] :
وتعذلني أفناء سعد عليهم |
|
ولا قلت إلّا بالتي علمت سعد |
ديوان الحطيئة (ص ٣٢٩).
(٤) الذّمر ، بفتح الذال وكسر الميم : الشجاع والداهية. لسان العرب (ذمر).
(٥) من هنا حتى قوله : «عار الفرار عن ابنه» ساقط في النفح.
(٦) كائنة طريف أو موقعة طريف : هي الموقعة الشهيرة التي كانت بين الإسبان وبني مرين ، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري ، سنة ٧٤١ ه ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص ١٠٥ ـ ١٠٦).
(٧) النص نثرا وشعرا في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٤ ـ ١٥).
(٨) في النفح : «وكانت».
(٩) في النفح : «شعري ورقاعا من إنشائي فتهلّل وما برح أن ارتجل».