ومنها (١) : وتعرّفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التّكتيب والتّعليم ، والحنين إلى العهد القديم ، فسررت باستقامة حاله ، وفضل ماله ، وإن لا حظ الملاحظ (٢) ، ما قال الجاحظ (٣) ، فاعتراض لا يردّ ، وقياس لا يضطرد (٤) ، حبّذا والله عيش أهل (٥) التّأديب ، فلا بالضّنك ولا بالجديب (٦) ، معاهدة الإحسان ، ومشاهدة الصّور الحسان ، يمينا إنّ المعلّمين ، لسادة المسلمين ، وإنّي لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب ، أمراء (٧) فوق المراتب ، من كل مسيطر الدّرّة ، متقطّب الأسرّة ، متنمّر للوارد تنمّر الهرّة ، يغدو إلى مكتبه ، كالأمير (٨) في موكبه ، حتى إذا استقلّ في فرشه ، واستولى على عرشه ، وترنّم بتلاوة قالونه (٩) وورشه ، أظهر للخلق احتقارا ، وأزرى (١٠) بالجبال وقارا ، ورفعت إليه الخصوم ، ووقف بين يديه الظّالم والمظلوم ، فتقول : كسرى في إيوانه ، والرّشيد في زمانه (١١) ، والحجّاج بين أعوانه. وإذا (١٢) استولى على البدر السّرار ، وتبيّن للشهر الغرار (١٣) ، تحرّك (١٤) إلى الخرج (١٥) ، تحرّك العود (١٦) إلى الفرج ، أستغفر الله مما يشقّ على سيدي سماعه ، وتشمئزّ من ذكره (١٧) طباعه ، شيم اللّسان ، خلط الإساءة بالإحسان ، والغفلة من صفات الإنسان. فأيّ عيش هذا (١٨) العيش ، وكيف حال أمير هذا الجيش؟ طاعة معروفة ، ووجوه إليه مصروفة ، فإن أشار بالإنصات ، تتحقق الغصّات (١٩) ، فكأنّما طمس الأفواه (٢٠) ، ولأم بين الشّفاه ، وإن أمر بالإفصاح ، وتلاوة الألواح ، علا الضّجيج والعجيج ، وحفّ به كما حفّ بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدسّ ، وغمزة لا تحسّ ، ووعد يستنجز ، وحاجة تستعجل وتحفز. هنّأ الله سيدي ما خوّله ، وأنساه بطيب آخره أوّله. وقد بعثت
__________________
(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩).
(٢) في النفح : «اللاحظ».
(٣) يشير إلى ذمّ الجاحظ معلمي الصبيان ، ويداعب أبا عبد الله اليتيم في رجوعه إلى هذه الحرفة.
(٤) في النفح : «لا يطرد».
(٥) كلمة «أهل» ساقطة في النفح.
(٦) الضّنك : الضّيّق. الجديب : المكان المقفر الذي لا نبات فيه. لسان العرب (ضنك) و (جدب).
(٧) في الأصل : «أمرا» وكذا لا معنى له ، والتصويب من النفح.
(٨) في الأصل : «والأمير» ، والتصويب من النفح.
(٩) في الأصل : «قانونه» والتصويب من النفح. وقالون وورش : مقرئان ، لكل منهما قراءته الخاصة.
(١٠) في الأصل : «وأندى» والتصويب من النفح.
(١١) في النفح : «أوانه».
(١٢) في النفح : «فإذا».
(١٣) في الأصل : «القرار» والتصويب من النفح.
(١٤) في الأصل : «وتحرك» والتصويب من النفح.
(١٥) في الأصل : «الخوج» ولا معنى له ، والتصويب من النفح.
(١٦) في الأصل : «القرد» والتصويب من النفح.
(١٧) في الأصل : «ذكراه» والتصويب من النفح.
(١٨) في النفح : «كهذا».
(١٩) في النفح : «لتحقّق القصّات».
(٢٠) في النفح : «على الأفواه».