ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف ، فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين (١٦٠) وهو رباط عظيم بناه على مفاخر عظيمة ، وآثار كريمة ، أودعها فيه ، وهي قصعة من قطعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والميل الذي كان يكتحل به ، والدّرفش وهو الأشفى الذي كان يخصف به نعله ، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضياللهعنه. ويقال إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة الف درهم وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة ، نفعه الله تعالى بقصده المبارك.
ثم خرجت من الرباط المذكور ومررت بمنية القائد (١٦١) ، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل ، ثم سرت منها إلى مدينة بوش (١٦٢) ، وضبطها بضم الباء الموحدة وأخرها شين معجم ، وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانا ومنها يجلب إلى سائر الديار المصرية وإلى إفريقية. ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دلاص (١٦٣) ، وضبط اسمها بفتح الدال المهمل وآخره صاد مهمل ، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضا كمثل الذي ذكرنا قبلها ويحمل أيضا منها إلى ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا (١٦٤) ، وضبط اسمها بباءين موحدتين أولاهما
__________________
(١٦٠) دير الطين : قرية توجد دائما على الساحل الأيمن للنيل على بعد خمسة كيلوميترات جنوب القاهرة القديمة ، هذا وإن أول ما عرف عن تلك الآثار المشار إليها أنها كانت عند بني ابراهيم بالينبوع ، واستفاض أنها بقيت موروثة عندهم من الواحد إلى الواحد إلى رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم ، ثم اشتراها في القرن السابع الهجري أحد بني حنّا الوزراء الأماثل ، ونقلها إلى مصر وبني لها رباطا على النيل عرف برباط الآثار وهو المعروف الآن بجامع أثر النبي ، وقد تحدث عن هذا الرباط المقريزي في خططه ... وسماه ابن دقماق بالرباط الصاحبي التاجي ... واستطرد ابن كثير في البداية والنهاية بذكر بعض تلك الآثار ... وذكره القلقشندي عند كلامه على الرّبط التي بالفسطاط ... وذكره البرهان الحلبي في حاشيته نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس ... وها نحن نرى ابن بطوطة يخصص للرباط هذه الفقرات الدالة ... وقد عرّف العلّامة أحمد تيمور بباني الرباط تعريفا جيّدا ... في الحلقة الثانية من بحثه حول الآثار النبوية الذي نشرته مجلة الهداية الاسلامية ج ١٢ / م ١ القاهرة جمادى الأولى ١٣٤٨ (أكتوبر ١٩٢٩) ، يراجع تعليق سابق رقم ١٦٠ حول ترجمة الصاحب تاج الدّين بن حناء ...
(١٦١) منية القائد توجد في الجيزة على الساحل الشمالي للنيل ، ربما كانت هي المعروفة اليوم تحت اسم منى الأمير.
(١٦٢) توجد مدينة بوش بين مدينة الواسطة وبين مدينة (بني سويف) في منطقة الفيّوم.
(١٦٣) تقع دلاص في نفس موقع بوش ، وقد ورد ذكرها في (نزهة المشتاق) للإدريسي الذي يتحدث عن قيام صناعة الحديد بها في زمانه ، وإليها تنسب اللجم الدلاصية ...
(١٦٤) تقع ببا على نحو من عشرين كيلوميترا جنوب بني سويف ، وتسمى أيضا ببا الكبرى ...