أظهرت السرور وبقيت حلب شهرين مزينة والناس في أكل وشرب ، ولم يبق صنف من أصناف الناس إلا أفاض عليهم السلطان النعم ووصلهم بالإحسان ، وسيّر إلى المدارس والخوانق الغنم والذهب وأمرهم أن يعملوا الولائم ، ثم فعل ذلك مع الأجناد والغلمان ، وعمل للنساء دعوة مشهودة أغلقت لها المدينة. وأما داره بالقلعة فزينها بالجواهر وأواني الذهب ، وكان حين أمر بحفر الخراب حول القلعة وجد عشرين لبنة ذهبا فيها قنطار حلبي فعمل منها أربعين قشوة بحقاقها ، وختن ولده الأكبر أحمد وختن معه جماعة من أولاد المدينة وقدم له تقادم جليلة فلم يقبل منها شيئا رفقا بهم ، لكن قبل قطعة سمندل ذراعين في ذراع فغمسوها في الزيت وأوقدوها حتى نفد الزيت وهي ترجع بيضاء فالتهوا بها عن جميع ما حضر. (١)
وكان عنده من أولاد أبيه وأولاد أولادهم مائة وخمسة وعشرون نفسا فزوّج الذكور منهم بالإناث فعقد في يوم واحد خمسا وعشرين عقدا بينهم ، ثم صار كل ليلة يعمل عرسا ويحتفل له ، وبقي على ذلك مدة رجب وشعبان ورمضان اه.
وفي أيام العزيز ابن الظاهر وقعت من القلعة عشرة أبراج مع أبدانها وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ووافق ذلك زمن البرد ، وكان تقدير ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ، ووقع نصف الجسر الذي بناه الملك الظاهر فاهتم الأتابك شهاب الدين طغريل بعمارتها فجمع الصناع واستشارهم فأشاروا أن يبنى من أسفل الخندق على الجبل ويصعد بالبناء فإنها متى لم تبن على ما وصفنا وقع ما يبنى عاجلا وطرأ فيه ما طرأ الآن وإن قصدها عدو لم يمنعه ، فرأى الأتابك أن ذلك يحتاج إلى مال كثير ومدة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع أشجار الزيتون والتوت وترك الأساس على التراب وبنى. ولهذا لما نزلها التتر لم يتمكنوا من أخذها إلا من هذا المكان لتمكن النقابين منه.
وفي سنة ثمان وعشرين بنى فيها العزيز دارا إلى جانب الزردخاناه يستغرق وصفها الإطناب ويقصر عنه الإسهاب مساحتها ثلاثون ذراعا في مثلها.
ولما تسلم التتر القلعة في تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وستمائة عمدوا إلى خراب سورها وأحرقوا ما كان بها من الذخائر والزردخاناه والمجانيق ، وزال رونقها وذهبت محاسنها. ولما هزم الملك المظفر التتر على عين جالوت وهرب من كان منهم في حلب ثم
__________________
(١) هنا تكلم على السمندل وأي شيء هو وأحال تحقيق أمره إلى حياة الحيوان للكمال الدميري. وقد تكلم عليه ابن خلكان في تاريخه أيضا.