الروايات ذات المغزى العميق فى ذلك الصدد. فها هو ابن يونس يقول : حدثنى أبى ، عن جدى ، قال : سمعت ابن وهب يقول : «ما رأيت ابنا ـ لعالم ـ أفضل من شعيب بن الليث» (١). وكأن والده يطلب إليه أن يكون أفضل من شعيب هذا فى خلقه وعلمه ، فإن لم يكن ، فلا أقل من أن يساويه فى فضله ، الذي شهد له به فقيه مصر ومفتيها ، وعالمها «ابن وهب».
ب ـ صاحب ذلك التشجيع النظرى خطوات عملية تطبيقية ، تمثلت فى حضور ابن يونس مجالس العلماء ، سواء كان ذلك فى منزل والده ، أم فى حلقاتهم العلمية التى كانوا يعقدونها. وإذا عرفنا أن «يحيى بن أيوب العلّاف المصرى» ، ذلكم المحدّث المشهور ، ذكر لنا ابن يونس أنه رآه ، وأن هذا العالم ما إن تقع عيناه على مؤرخنا ، حتى يضمّه إليه ، ويقبّل رأسه ، ويدعو له (٢) ؛ دلّ ذلك على نجابة وذكاء ، كان يتوسمه فيه ذلك الرجل ، ودلّ ـ أيضا ـ على طلب مؤرخنا العلم فى سن مبكرة ؛ لأن هذا المحدّث توفى سنة ٢٨٩ ه (٣) «أى : فى وقت كان مؤرخنا فيه قد بلغ الثامنة من عمره ؛ إذ إن مولده كان سنة ٢٨١ ه (٤)».
ح ـ ظل ابن يونس على جده ومثابرته فى تلقى العلم فى شبابه المبكر (٥) ، حتى توفى والده ـ كما ذكرنا من قبل سنة ٣٠٢ ه ـ وهو ابن واحد وعشرين ربيعا. وأعتقد أن مؤرخنا ـ عندئذ ـ قد شبّ عن الطّوق ، واستوى على سوقه ، وانفسحت أمامه مجالات العلم رحبة فسيحة ، فظل ينهل من موارده العذبة ، يتلقى العلم ، ويقوم
__________________
(١) تاريخ المصريين (ترجمة رقم ٦٤٩).
(٢) المصدر السابق (ترجمة رقم ١٣٨٢).
(٣) المصدر السابق (ترجمة رقم ١٣٨٢).
(٤) وفيات الأعيان ٣ / ١٣٧ (قال ابنه أبو الحسن على بن عبد الرحمن : كانت ولادة أبى فى سنة ٢٨١ ه) ، وسير النبلاء ١٥ / ٥٧٩ ، وتاريخ الإسلام ٢٥ / ٣٨١ ، وتذكرة الحفاظ (ط. دار إحياء التراث) مجلد ٢ ج ٣ / ٨٩٨ ، ومخطوط عيون التواريخ (مصور عن الظاهرية) ق ١٠٢ ، والبداية والنهاية ١١ / ٢٤٨. ومن ثم ، فلا صحة مطلقا لما زعمه السمعانى فى (الأنساب) ٣ / ٥٣٠ : أن مولد ابن يونس كان سنة ٢٤٠ ه.
(٥) فمثلا : ذكر ابن حجر أن ابن يونس حدّث عن (أحمد بن حماد بن مسلم التجيبى ، المتوفى سنة ٢٩٦ ه). (تهذيب التهذيب) ١ / ٢٢. وهذا يعنى أن مؤرخنا كان عمره (١٥ سنة) عند وفاة ذلك المحدّث. (راجع ترجمته فى «تاريخ المصريين» ترجمة رقم (١١).