ج ـ هدوء طبعه وموضوعيته ، وعفّة لسانه :
هذه سمة أخرى من سمات شخصية مؤرخنا «ابن يونس» ، وهى ذات أهمية بالغة ؛ لأن الهدوء والمنطق العقلانى ، والنزاهة فى القول ، مما يجب أن يتحلّى به العلماء الحقيقيون. وقد ضرب ابن يونس فى هذا المجال مثلا طيبا ، عن طريق ما خطّه قلمه من تعليقات هادئة ، لا إسفاف ولا ابتذال فيها ، يحكمه ـ فى ذلك كله ـ خلق قويم ، ولسان عفّ نزيه ، وموضوعية لا تعرف التحيز والهوى.
وقد سلك ابن يونس فى هذا الإطار مسالك شتى ، منها :
١ ـ أنه كان يفرق جيدا بين المستوى الأخلاقى والمستوى العلمى ، فقد يكون الرجل صالحا فاضلا ثقة ، لكن علمه لحقه شىء من الاضطراب والضعف (١) ، أو لم يكن على معرفة صحيحة قويمة بعلم معيّن (٢) ، فكان يعطيه حقه من الثناء. وينبّه على ما فى مستواه العلمى من خلل.
٢ ـ أنه كان يعبّر عن المستوى العلمى للمترجم له بصورة هادئة ، ومعبّرة فى الوقت ذاته ـ وبدقة ـ عن حقيقة حاله ، كما فى قوله عن أحد المحدّثين : «ليس بالقوى فى الحديث» (٣) ، وقوله عن آخر : «منكر الحديث» (٤). وأحيانا يميل إلى أن نكارة المرويات ترجع إلى الراوين عن المترجم له «فقد ينسبون إليه ما لم يحدّث به» (٥). وقد لا يكون لابن يونس فيه رأى محدد ، لكنه طالع تشكيك البعض فى وثاقته ، فكان يثبت ذلك
__________________
(١) كما فى (تاريخ المصريين ، ترجمة رشدين بن سعد ، برقم ٤٧٦). أما غير ابن يونس ، فكان أعنف رأيا ، وأقسى عبارة ، وأشد تصرفا (قال ابن يونس فى (المصدر السابق) : وأساء فيه يحيى ابن معين القول ، ولم يكن النسائى يرضاه ، ولا يخرّج له).
(٢) راجع السابق (ترجمة عبد العزيز بن قيس ، رقم ٨٦٢) ، قال : وكان ثقة ، ولكن لم يكن من أهل المعرفة بالحديث.
(٣) السابق (ترجمة زيد بن محمد السامى ، ترجمة ٥٢٠). وربما كان قصده أن أحاديثه ليست بدرجة الصحة الواجبة ، أو أن اهتمامه بالحديث كان يسيرا ؛ لأنه قال عنه : حدّث عن يونس ، وابن أخى ابن وهب بشىء يسير.
(٤) السابق (ترجمة شمر بن نمير ، رقم ٦٥٤). والمعنى : له أحاديث يخالف فى روايتها ما رواه الثقات.
(٥) كما ورد فى ترجمة (أسد بن موسى ، رقم ٨٧ فى «تاريخ الغرباء» ، قال عنه ابن يونس : حدّث بأحاديث منكرة ، وأحسب الآفة من غيره.