وتبعنا وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه ، ولا لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وقال : أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري ، فبهت التركماني وتحير في أمره ، ورمى اليد وخاف ، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا ، وبقي التركماني راجعا وهو يتلفت إلينا حتى غاب ، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير.
وحدثني صفي الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب قال : حدثنا الشيخ ضياء الدين ابن صقر رحمهالله تعالى أن في سنة خمسمائة وتسع وسبعين قدم إلى حلب الشيخ شهاب الدين السهروردي ونزل في مدرسة الحلاوية ، وكان مدرسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين رحمهالله ، فلما حضر شهاب الدين الدرس وبحث مع الفقهاء وكان لابس دلق وهو مجرد بإبريق وعكاز خشب ، وما كان أحد يعرفه ، فلما بحث وتميز بين الفقهاء وعلم افتخار الدين أنه فاضل أخرج له ثوبا عتابيا وغلالة وبقيارا وقال لولده : تروح إلى هذا الفقير وتقول له : والدي يسلّم عليك ويقول لك : أنت رجل فقيه وتحضر الدرس بين الفقهاء ، وقد سير لك شيئا تكون تلبسه إذا حضرت ، فلما وصل إلى الشيخ شهاب الدين وقال له ما أوصاه سكت ساعة وقال : يا ولدي حط هذا القماش وتفضل اقض لي حاجة ، وأخرج له فص بلخش في قدر بيضة الدجاجة رمّاني ما ملك أحد مثله في قده ولونه وقال : تروح إلى السوق تنادي على هذا الفص ، ومهما جاب لا تطلق بيعه حتى تعرفني. فلما وصل به إلى السوق قعد عند العريف ونادى على الفص ، فانتهى ثمنه إلى مبلغ خمسة وعشرين ألف درهم ، فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين وهو يومئذ صاحب حلب وقال : هذا الفص قد جاب هذا الثمن ، فأعجب الملك الظاهر قده ولونه وحسنه فبلغه إلى ثلاثين ألف درهم ، فقال العريف : حتى أنزل إلى ابن افتخار الدين وأقول له. وأخذ الفص ونزل إلى السوق وأعطاه له وقال له : رح شاور والدك على هذا الثمن. واعتقد العريف أن الفص لافتخار الدين ، فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرفه بالذي جاب الفص صعب عليه وأخذ الفص وجعله على حجر وضربه بحجر آخر حتى فتته ، وقال لولد افتخار الدين : خذ يا ولدي هذه الثياب ورح إلى والدك قبّل يده عني وقل له : لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه ، فراح إلى افتخار الدين وعرّفه صورة ما جرى ، فبقي حائرا في قضيته.