رحل من حلب في صدر عمره قاصدا بغداد ليدرك أبا البركات عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن الأنباري وتلك الطبقة بالعراق وبلاد الجزيرة ، فلما وصل إلى الموصل بلغه خبر وفاته فأقام بالموصل مديدة وسمع الحديث بها ، ثم رجع إلى حلب. ولما عزم على التصدر للإقراء سافر إلى دمشق واجتمع بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور وسأله عن مواضع مشكلة في العربية وعن إعراب ما ذكره أبو محمد الحريري في المقامة العاشرة المعروفة بالرحبية وهو قوله في أواخرها : (حتى إذ لألأ الأفق ذنب السرحان ، وآن انبلاج الفجر وحان) ، فاستبهم جواب هذا المكان على الكندي ، هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان ، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب ، أو على العكس ، وقال له : قد علمت قصدك وأنك أردت إعلامي بمكانتك من هذا العلم. وكتب له خطه بمدحه والثناء عليه ووصف تقدمه في الفن الأدبي.
قلت (القائل ابن خلكان) : وهذه المسألة يجوز فيها الأمور الأربعة ، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان.
ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة ، وهي إذ ذاك أم البلاد ، مشحونة بالعلماء والمشتغلين ، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب لم يكن فيهم مثله ، فشرعت في القراءة عليه ، وكان يقري بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر ، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية ، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء. وابتدأت بكتاب اللمع لأبن جني فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين ، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك. وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدي والمنتهي ، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون مع سكينة ووقار. ولقد حضرت يوما حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه اللمع لابن جني فقرأ بيت ذي الرمة في باب النداء :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل |
|
وبين النقا آانت أم أمّ سالم |
فقال له الشيخ : إن هذا الشاعر لشدة وله في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة أم سالم وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان