تقديم
التاريخ ليس الحقيقة ، على الأقل ليس كلها ، لكن العمل به يكتسب شرعيته العلمية من تحري الحقيقة. وعندما يكف المؤرخ عن السعي لها يفقد تلك الشرعية ؛ أمّا عندما يجافي الحقيقة في عمله ، فإنه ينتج شيئا آخر تماما. وإذ لا أدّعي الحياد في موضوع هذا الكتاب ، فقد وجدت في البحث عن الحقيقة التاريخية وتدوينها ما يلبي انحيازي ، فلم يعد من مبرر لتلافيها.
والكتابة في تاريخ فلسطين أمر محفوف بمخاطر الانزلاق نحو إخضاع الحقيقة التاريخية للهوى السياسي ، وخصوصا لما لهذا البلد من قضية تتباين الأهواء بشأنها ، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على أعمال الباحثين في تاريخها عبر العصور. ولقد واجهت هذه المشكلة في جمع مادة الكتاب وتصنيفها وصوغها ، وبذلت الجهد في اعتماد الموضوعية منهجا في التعامل مع القضايا الشائكة التي يطرحها تاريخ هذا البلد ، الفريد في موقعه الجغرافي والتراثي والسياسي. وبناء على ذلك ، توخيت الدقة في جمع مادته ، ومن المصادر التي اعتقدتها أكثر وثوقا ، وبالتالي معالجتها بأسلوب المؤرخ لا المنافح السياسي.
ولقد رأيت أن أجمع بين دفتي هذا المجلد الصغير نسبيا قصة كاملة من تاريخ فلسطين الغني ، ومنذ أقدم العصور المعروفة ، فكان لا بدّ من التركيز على الجانب السياسي من تلك القصة الطويلة. ومع ذلك ، ولاعتبارات حجم الكتاب ، ونظرا إلى غزارة المادة الواجب تغطيتها ، لم يكن لديّ مفر من التكثيف الشديد في أسلوب الصوغ. وقد نجم عن ذلك العدول عن الإشارة إلى المراجع في متن النص ، تحاشيا لإغراق الكتاب بالحواشي ، وتمّ الاكتفاء بإيراد بعض أهم المراجع في ذيل كل فصل. ويخرج الفصل الأخير عن هذه القاعدة ، نظرا إلى طبيعته الخاصة ، كونه يتناول الصراع بشأن فلسطين في العصر الحديث.
وإذ تضمن الكتاب فصلا مختصرا في عصور ما قبل التاريخ ، اعتبرته توطئة لما يليه ، وتعريفا بحضارة البلد منذ القدم ، فقد رأيت أن أتوقف به عند حرب ١٩٤٨ ، وأختمه باتفاقات الهدنة التي انتهت إليها تلك الحرب ، على اعتبار أن ما بعد ذلك يدخل في السياسة المفتوحة على احتمالات تحاشيت الخوض فيها والتكهن بمآلها.