المتعددة في الإمبراطورية. والمسيحية اقتربت أكثر فأكثر لتشكل ذلك القاسم المشترك ، أكان على صعيد الفرد أو الجماعة. وعلى الرغم من العقبات التي واجهها التنظيم الكنسي ، خلال قرنين ، وخصوصا على صعيد التباينات ـ العقائدية والتنظيمية ـ بين الجماعة المسيحية ، فقد استطاع أن يشكل إطارا قادرا على استيعاب الجماهير الواسعة ، وتوجيه حياتها الروحية. وقد أفادت الكنيسة في بناء تنظيمها الشامل من وحدة أراضي الإمبراطورية الواسعة ، التي كانت مفتوحة أمامها من دون قيود على حرية تنقل رجالها.
وباقتراب نهاية القرن الثالث الميلادي ، كانت روما ، وما بنته كله ، على وشك انهيار سريع ؛ فوضى سياسية وهجمات من الخارج وهبوط اقتصادي واضطراب اجتماعي والبحث عن ديانات غير رومانية ، تضافرت كلها لتضيق الخناق على البنية الإمبريالية إلى أقصى الحدود. وفي سنة ٢٨٦ م ، برز قائد باسم ديوقلتيان ، حاول أن يضع حدا لهذا المسار ، فاستطاع إلى حد معيّن أن يوقف التدهور ، لكن المسار العام ظل مستمرا. وفي سنة ٣٠٦ م مات ديوقلتيان ، وحل محله قسطنطين ، وبذلك بدأت مرحلة جديدة ، أدّت إلى انقسام الإمبراطورية إلى شطرين : شرقي ، وعاصمته القسطنطينية (بيزنطة) ؛ وغربي ، يتقلص ويتهاوى بفعل النشاط الجرماني ، وعاصمته روما. وراحت عصور التاريخ القديم تفسح المجال أمام العصور الوسطى ، فبرزت الإمبراطورية البيزنطية ، ومعها المسيحية ، بمنظور كوني جديد ، تحتل فيه «فلسطين السورية» (الأرض المقدسة) موقعا خاصا.
رابعا : العصر البيزنطي
يعتبر تدشين القسطنطينية (٣٣٠ م) عادة ، بداية التاريخ البيزنطي. وكما أرسى أغسطس (أكتافيوس) ، قبل ثلاثة قرون ونصف تقريبا ، أسس الإمبراطورية الرومانية بعد أن أخرجها من الفوضى التي اجتاحتها لجيل من الزمن ، هكذا فعل قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م) بالنسبة إلى ما صار يعرف لاحقا باسم الإمبراطورية البيزنطية ، التي أرسى قواعدها على الديانة المسيحية. ومع أن الإمبراطورية الرومانية لم تنقسم إلى شطرين ـ شرقي وغربي ـ في أيامه ، لكن المسار نحو الانفصال كان واضح المعالم. فالولايات الشرقية من الإمبراطورية كانت متقدمة على الغربية ، اقتصاديا وحضاريا وثقافيا ، بينما أخذت الغربية تتراجع تحت وطأة التأثير الجرماني على جميع الصعد. وأدرك قسطنطين ذلك ، فنقل عاصمته إلى الشرق ، إلى بيزنطة ، حيث بنى عاصمته ، ودعاها على اسمه ـ القسطنطينية.