لقد كانت الولايات الشرقية مهد الحضارات القديمة ، وتراثها ازداد غنى عبر العصور وكذلك كان اقتصادها أكثر ازدهارا بفروعه جميعها ـ الزراعة والصناعة والتجارة. وعلى الرغم من فترات الهبوط التي شهدتها ، أمنيا وإداريا ، فإن المؤسسات التي نشأت فيها وتطورت ، ظلت قادرة على إدارة الحياة المدنية. وحتى روحيا ، كانت هذه الولايات مجال تفاعل تيارات فكرية ودينية ، وبالتالي كانت حياة الناس فيها أوسع أفقا وأرقى مستوى. والقسطنطينية التي أصبحت العاصمة والمركز ، جسدت بين أسوارها المنيعة ، التعبير الأرقى لهذه المجالات جميعا ـ الإدارة المركزية المنظمة والموقع الاستراتيجي المنيع والقوة العسكرية والاقتصادية والتقدم الحضاري والثقافي. وعلى الصعيد الثقافي جمعت القسطنطينية تراث أكاديمية أثينا ومدرسة حقوق بيروت ومكتبة الإسكندرية الشهيرة.
والحضارة التي أينعت في بيزنطة كانت في الأساس شرق أوسطية. واحتلت بلاد الشام ومصر موقعا متميزا فيها ، إضافة إلى آسيا الصغرى وبلاد اليونان. وسادت فيها اللغة اليونانية ، إضافة إلى اللاتينية والأرامية والقبطية ، كما غلبت عليها الثقافة اليونانية. وجاءت المسيحية لتستوعب هذه العناصر ، وتطرح نفسها ديانة للدولة المتعددة الشعوب والأجناس واللغات ، متجاوزة الحدود الجغرافية ، والفوارق القومية والثقافية والحضارية. وعلى أراضي الإمبراطورية عاش خليط من الشعوب ، لكل منها ثقافته الخاصة ، لكن الجميع ، وخصوصا الطبقات العليا من المجتمع ، تعلموا اليونانية ـ اللغة الرسمية للدولة ـ وثقافتها وآدابها. وهذا الخليط من السكان ضم اليونان والسوريين والمصريين والفرس والفينيقيين والعرب والأرمن واليهود والسلاف والجرمان والمغول.
وطوال تاريخ الإمبراطورية البيزنطية ، قامت العاصمة ـ القسطنطينية ـ بدور حاسم في تقرير مصيرها ، كما شكّلت ركنا أساسيا في ازدهارها المادي والروحي. فالمدينة بموقعها الاستراتيجي ، كانت تتمتع بميزات اقتصادية ضخمة ، لأنها تقع على ملتقى طرق التجارة. ونظرا إلى ضخامتها وأسواقها وموانئها ومسافنها ، فقد كانت مركزا اقتصاديا وصناعيا كبيرا جدا. ولأنها العاصمة كان من الطبيعي أن تصبح بؤرة جذب ثقافي قوية. وكل ذلك إضافة إلى أنها مركز الإدارة الحكومية والدينية ، أعطاها هذا الدور الحاسم. والمدينة ، بتحصيناتها الطبيعية والاصطناعية ، الفريدة في نوعها في العالم القديم ، أثبتت طوال قرون كثيرة أنها عصية على الاجتياح. وقد أعطى ذلك سكانها الطمأنينة إلى خلودها ، والاقتناع بقدرتها على النهوض ، على الرغم من كل النكسات ، فقد اعتقد أهلها أنها «محروسة من لدن الله» ، وأنها أقيمت بناء على «إرادة