موقعه الديني إلى التدخل في الخلافات العقائدية بين التيارات المتعددة. والواقع أن هذه التيارات ، التي اتخذت سمة لاهوتية ، لم تكن معزولة قط عن الانتماءات القومية للشعوب داخل الإمبراطورية. وقد تشكلت فعلا كنائس ذات طابع قومي ، وخصوصا في الولايات الشرقية ـ مصر وسورية والعراق والجزيرة .. إلخ. وكان للمركزية المطلقة في إدارة الدولة انعكاسات سلبية ، سياسية ودينية ، في مراحل هبوط مستوى الإدارة ، وتفشي الفساد في صفوفها. إذ أخذت الخلافات طابعا مزدوجا ـ دينيا وقوميا ، في آن معا.
والخلافات العقائدية واللاهوتية بشأن طبيعة المسيح (وحدة طبيعته البشرية والإلهية ، أو انفصالهما) ، أدّت خلال القرنين ـ الرابع والخامس ـ إلى انقسامات حادّة داخل الكنيسة. وفي المجمع المسكوني الرابع (مجمع خلكيدون) ، الذي انعقد بقرار من الإمبراطور (٤٥١ م) ، كان الانقسام واضحا بين الشرق والغرب. وعندما أقرّ هذا المجمع ثنائية طبيعة المسيح ، وتبنّت الدولة هذا القرار على أنه المذهب الرسمي للكنيسة الأورثوذكسية وبالتالي للدولة ، فقد أخرجت الطوائف الأخرى من إطارها. وعندما عمدت إلى فرض الموقف الرسمي قسرا ، انفجرت اضطرابات في الولايات الشرقية ـ سورية ومصر ـ حيث كانت أغلبية السكان تتمسك بالعقيدة القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح (المونوفيزيتية). وقمعت تلك الاضطرابات بعنف شديد ، نجم عنه الكثير من إراقة الدماء على أيدي السلطة.
لكن قمع هذه الثورات لم يحل المشكلة بين بيزنطة والولايات الشرقية ، إذ وراء الخلافات العقائدية ، كانت تكمن تناقضات قومية وسياسية ، وخصوصا في سورية ومصر. وأخذت هذه التناقضات تحتدم عبر الصراع ونتيجة القمع ، وبالتالي يتسع نطاقها وتبرز بكل وضوح. وسكان هذه الولايات ، وخصوصا سورية ، أصبحوا بفعل موقعهم يقتنعون بأفضلية الانفصال عن الإمبراطورية البيزنطية ، والانضمام إلى الفارسية. والأمر الذي شجعهم على ذلك هو الحفاوة التي استقبل بها «النساطرة» في شمال العراق وبلاد الرها ، عندما هربوا من أراضي بيزنطة إلى فارس ، إذ سمح لهم بإقامة مراكز دينية ، مارسوا فيها تعاليمهم بحرية كاملة ، ولم تتدخل الدولة في نشاطهم التبشيري ، على طول «طريق الحرير» إلى الصين. وفعلا ، فإن هذا الصراع السياسي ـ الديني سهّل على الفرس احتلال بلاد الشام ، ومن بعدهم على العرب فتحها ، في النصف الأول من القرن السابع الميلادي.
وتعتبر فترة حكم جوستنيان (٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) فترة ازدهار للحكم البيزنطي القوي في بلاد الشام. فالنشاط العسكري الذي مارسه على جبهات متعددة ، وبنجاح ملحوظ