بينهما (٦٢٩ م) ، واستعاد هيراكليوس الولايات الشرقية ، بما فيها إيليا كابيتولينا ، وكذلك «الصليب المقدس» الذي أعيد إليها بموكب فخم.
إن السهولة التي احتل بها الفرس الولايات الشرقية للإمبراطورية البيزنطية ، لا يمكن تفسيرها من دون الأخذ في الاعتبار الصراعات الدينية داخل الكنيسة المسيحية ، وما رافقها من قمع وإراقة دماء. فهذه الولايات كانت في شقاق مع بيزنطة ، لأسباب سياسية وقومية ، عبرت عنه في تشبثها بالعقيدة المونوفيزيتية ، المناهضة للكنيسة الرسمية. وزاد في ميل سكان هذه الولايات إلى الفرس ، المعاملة الحسنة التي كان يتمتع بها النسطوريون تحت حكمهم. أمّا في فلسطين ، فعلى الرغم من أن البطريرك كان مواليا للمركز ، فقد كانت أغلبية الناس في المعارضة. ومع ذلك ، انتقم الفرس من مسيحيي البلاد وكنائسهم ، وخصوصا في أورشليم ، وسمحوا لليهود باستباحة معابد المسيحيين ومنازلهم. وانتهز هؤلاء الفرصة ظنّا منهم أن الحكم الفارسي سيعيد إليهم السلطة في البلاد ، كما فعل كورش في حينه. لكن هذه الأحلام تبددت بالنصر الذي أحرزه هيراكليوس على الفرس.
والنصر الباهر الذي حققه هيراكليوس وضعه في مصاف الأباطرة العظام ، وهناك من شبهه بالإسكندر المقدوني. لكن «الفتح العربي» الذي جاء سريعا في إثره غطى عليه. ومع ذلك ، فإن هذه الحرب مع الفرس ، وما آلت إليه من نتائج ، مهدت الطريق أمام الفتح العربي ، وبالتالي إزالة الدولة الساسانية من الوجود ، في حين صمدت بيزنطة ثمانية قرون أخرى. وبعد توقيع الصلح مع الفرس ، عرج هيراكليوس على إيليا كابيتولينا في طريق عودته إلى بيزنطة ، ودخلها باحتفال كبير ، وأعاد «الصليب المقدس» إلى موضعه ، وأمر بترميم الكنائس التي خربت ، ومنع اليهود من دخول «المدينة المقدسة» ، وحاكم المسؤولين عن ارتكاب المجازر ضد المسيحيين ، ولاحقا أصدر مرسوما يحظر عليهم ممارسة شعائرهم الدينية.
العمران
لقد حققت الولايات الشرقية من الإمبراطورية الرومانية نهضة عمرانية وفنية وفكرية ، في العصر البيزنطي ، وخصوصا بعد بروز الديانة المسيحية. فإضافة إلى هندسة المدن ، التي أقيم الكثير منها ، بنيت كنائس فخمة وأديرة وأبنية عامة ، تجلى فيها الفن البيزنطي الرائع. وفي صوغ هذا الفن المتميّز تضافرت ثلاثة عناصر أساسية ، هي : المسيحية والهلّينية والتراث الشرقي. وكانت مدينة أنطاكيا ، عاصمة الولاية السورية ، هي الرائدة على هذا الصعيد. كما قامت في بلاد الشام مراكز أدبية وثقافية ،