تجاوز أثرها حدود الولاية بكثير. وإذ كانت الإسكندرية هي الرائدة في هذا المجال ، فقد اشتهرت بيروت بمدرسة الحقوق ، وقيساريا وغزة بمدارس البلاغة والشعر. ومن قيساريا جاء «أبو تاريخ الكنيسة» (يوسيبيوس القيصري) ، الذي يعتبر المصدر الرئيسي عن حياة قسطنطين وبداية المسيحية.
وشهد العصر البيزنطي تغيّرا ملحوظا بالتركيب السكاني في فلسطين. ففي مقابل تقلص أعداد اليهود فيها ، ازدادت نسبة العرب ، إذ إضافة إلى العناصر التي كانت تعيش فيها ، وعلى أطرافها ، منذ القدم ـ أنباط وأدوميين وأيطوريين ، وغيرهم ـ دخلت قبائل جديدة من الغسانيين وحلفائهم ، وعاشت إلى جانب السكان الأصليين الذين تمركزوا في المدن أصلا ـ سوريين (أراميين) ويونان ورومان وأرمن ويهود وغيرهم. وكان الغسانيون قد انتشروا خلال القرنين ـ الخامس والسادس الميلاديين ـ في سورية وشرق الأردن وفلسطين ، وتحالفوا مع البيزنطيين وأقاموا دولة حدودية قوية ، حلت محل خط الحدود الدفاعي الروماني (ليمس). وقد تنصر الغسانيون ، وكانوا يتبعون العقيدة المونوفيزيتية. وبسبب موقعهم ودورهم ، كان بنو غسان بؤرة جذب لقبائل متعددة ، دخلت في تحالف معهم ، واستقرت في المنطقة.
وضمن الترتيبات الإدارية ـ الدفاعية التي أدخلها الإمبراطور ديوقلتيان (٢٨٤ ـ ٣٠٥ م) ، تمت إقامة خط حصون دفاعي على حدود الصحراء في جنوب فلسطين وشرق الأردن. وكانت مهمة القوات العسكرية في هذا الخط ، الذي عرف باسم (ليمس) ، ضبط حركة القبائل العربية الرحالة في هذه المناطق. كما عمد ديوقلتيان إلى تقسيم الولايات إلى وحدات أصغر حجما ـ ألوية. وقسمت فلسطين (يوديا سابقا) في عهده إلى لواءين ، وبعده إلى ثلاثة. ونحو سنة ٤٠٠ م ، كانت فلسطين مكونة من ثلاثة ألوية ، هي : ١) «فلسطين الأولى» ، وتضم الأجزاء الوسطى من البلد ـ الجبل والساحل ـ ومركزها الإداري قيساريا ، والمركز الروحي في إيليا كابيتولينا ؛ ٢) «فلسطين الثانية» ، وتضم الجليل ، وبعض أجزاء شرق الأردن الشمالي (الجلعاد) ، ومركزها بيسان ؛ ٣) «فلسطين الثالثة» ، وتضم جنوب فلسطين وشرق الأردن (مناطق الأدوميين والأنباط سابقا) ومركزها البتراء.
ولضبط الإدارة ، مدنيا وكنسيا ، قسمت الألوية إلى أقضية ، في مركز كل منها مدينة. ويتضح من المصادر المتوفرة أن عدد المدن ازداد في فلسطين منذ القرن الثالث الميلادي ، إذ أصبحت البلاد كلها مقسمة إلى وحدات مدينية تتمتع بحكم ذاتي. وجنبا إلى جنب مع الإدارة الحكومية كانت تقوم إدارة كنسية ، وبتراتبية متوازية مع أهمية المدينة كمركز ، لتطابق الإدارتين منذ أيام قسطنطين وخلفائه. وبطريركية