فاليريان نفسه سنة ٢٧٢ م ، ووقعت أسيرة في يده ، ودخل تدمر ، وخربها بعد أن نهبها ، وتشهد خرائبها القائمة حتى يومنا هذا على عظمتها.
وبصورة ما ، ورثت مملكة آل جفنة (الغسانيين) موقع تدمر ، السياسي والتجاري ، وأقامت دولة حدودية قوية ، ولكن من دون عاصمة فخمة كتدمر. وإذ تميّز التدمريون بنشاطهم التجاري أولا ، ومن ثمّ العسكري ، فقد كان الغسانيون على العكس ، إذ كرسوا نشاطهم للصراع العسكري أولا ، واستفادوا من التحوّلات التي طرأت على طرق التجارة الدولية ، فصارت تمر عبر مناطقهم. وبينما توجه التدمريون ، كشعب تجاري ، إلى بناء مدينة فخمة في قلب الصحراء ، تضم مؤسسات تخدم الوظيفة المركزية لها ، فإن الغسانيين ظلوا أقرب إلى البداوة ، وبقيت عاصمتهم عبارة عن معسكر متنقل على أطراف البادية ، إلّا في فترات قصيرة حيث استقرت في الجابية (الجولان) وجلّق (دمشق). ومن نواح متعددة ، شكّل ملك الغساسنة في بلاد الشام ، وخصومهم الألداء ، المناذرة (اللخميين) ، في الحيرة على أطراف العراق ، مرحلة متقدمة في التمهيد للفتح العربي بعد ظهور الإسلام.
وبنو غسان قبيلة عربية يمنية ، هاجرت من موطنها في نهاية القرن الثالث الميلادي ، ونزلت البلقاء والحوران. وهم يلقبون آل جفنة ، نسبة إلى جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء ، مؤسس السلالة في بلاد الشام ، وهناك من ينسب إلى هذه السلالة أكثر من ثلاثين ملكا. وقد تنصّر الغسانيون ، واتبعوا العقيدة المونوفيزيتية ، وطرح ملوكهم أنفسهم حماة الكنيسة البرادعية (نسبة إلى يعقوب البرادعي ـ المبشر النشط بهذه العقيدة في منطقة نفوذ الغسانيين) ، الأمر الذي أدّى إلى صدامات عنيفة بينهم وبين البيزنطيين الذين تبنّوا الكنيسة الأورثوذكسية الرسمية في الإمبراطورية. وفي العقود الأخيرة من القرن الخامس الميلادي ، توثقت علاقات الغسانيين ، كحكام دولة حدودية ، مع البيزنطيين. أمّا فترة ازدهار هذه المملكة فكانت في القرن السادس الميلادي (أيام جوستنيان) ، وذلك في زمن الحارث الثاني (الأعرج) ، الذي حكم في الفترة (٥٢٩ ـ ٥٦٩ م) ، ومن بعده في زمن ابنه المنذر وحفيده النعمان. وانتهى ملك آل جفنة بالفتوح العربية ، في النصف الأول من القرن السابع الميلادي.
إن أثر الغساسنة في بلاد الشام يتجاوز المأثور عنهم في التراث العربي بشأن صراعهم الدموي الطويل ، كدولة حدودية متحالفة مع بيزنطة ، مع أبناء عمومتهم اللخميين في الحيرة ، حلفاء الفرس. فآثارهم المنتشرة في سورية والأردن وفلسطين تشهد على فترة من الازدهار الحضاري المادي الكبير. وكذلك ، فالأدب العربي ينضح بمآثرهم وحبهم للشعر وإكرامهم للشعراء. وخلال حكمهم الطويل (نحو أربعة