وفي مكة ، التي جمعت المتناقضات وهي تشهد تحوّلات حادة في مجتمعها وعلاقاتها ، ولد النبي محمد (ص) ، في بطن من قريش (بني هاشم) ، وفي عائلة كانت تتولى «سدانة الكعبة» ، وذلك «عام الفيل» (٥٧٠ م) بحسب الرواية. وقد نشأ وترعرع وهو يشهد هذه التحولات وما يواكبها من متغيرات في السلوك والعلاقات والقيم. فالمدينة التي كانت مركزا دينيا قديما ، صارت فضلا عن «الحرم» ، تضم سوقا تجارية ومالية ضخمة. وأهلها ، الذين ظلت الروح القبلية تسود مجتمعهم ، أصبحت لهم شبكة علاقات واسعة ، في الجزيرة وخارجها ، تتناسب وحجم تجارتهم الدولية الكبير. ومكة التي صارت تستحوذ على هذه التجارة الدولية ، كانت بالضرورة على اطلاع بما يجري بين القوتين العظميين في تلك الفترة التاريخية. وبالتأكيد ، فإن هذه الصورة لم تكن غائبة عن ذهن «رسول الله» (ص) ، وهو يباشر دعوته إلى الإسلام. ومكة هذه ، التي حجب تشبث أهلها بنمط حياتهم الآفاق الرحبة التي يفتحها الإسلام أمامهم ، أكان على الصعيد الروحي أو المادي ، رفضت دعوة الرسول (ص) إلى اعتناق الدين الجديد. ولمّا ثابر محمد (ص) على دعوته من دون هوادة ، رأى فيها أهل مكة ، بل فيه شخصيا ، خطرا يتهدد مرتكزات علاقاتهم وقيمهم ـ المادية والروحية. وبقدر ما ازداد احتدام التناقض معه ، رفع أولو الأمر في مكة حدة صراعهم ضده ، فاضطروه إلى مغادرة مسقط رأسه ، والهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة). وفي المدينة وجد الرسول (ص) مرتكزا مرحليا لنشاطه الديني والسياسي ، يدير منه صراعه مع مكة لحملها على قبول الدعوة إلى الإسلام ، إذ ظل ذلك بالنسبة إليه هدفا مركزيا يوليه الأولوية. ومع أنه أعلن بيت المقدس (القدس) «القبلة الأولى» ، يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم ، فإن مكة لم تغب قط عن باله ، وذلك لمركزيتها في الدين الجديد ـ الإسلام ـ الذي يدعو إليه ، كما في التشكيل السياسي الذي يعمل من أجله.
لأسباب دينية ـ إعلان بيت المقدس أولى القبلتين ـ وسياسية ـ نشر الدعوة الإسلامية بين عرب الشام والعراق ـ وكذلك لضرورات الصراع مع أهل مكة ، كان اهتمام الرسول (ص) ببلاد الشام لا يفوقه إلّا الهدف المباشر ـ فتح مكة (البيت الحرام) ، واستمالة قريش (اللقاح) إلى جانبه. ولتحقيق أهدافه في مكة ، اتبع محمد (ص) سياسة الترغيب والترهيب. فبينما عمد في «مغازيه» الأولى إلى تهديد عصب حياتها الاقتصادية ـ التجارة ـ لم يتوقف عن السعي ، سياسيا ودبلوماسيا ، لجذب أعيان قريش إلى الإسلام. وما أن حقق توازنا نسبيا للقوى مع مكة ، جرى التعبير عنه في صلح الحديبية سنة ٦ ه ، حتى وجه اهتمامه شمالا في اتجاه بلاد الشام ، وأولا وقبل كل شيء ، إلى الواحات الواقعة على طريق التجارة المؤدية إليها. وهكذا جرى فتح