فهذه الرقعة من غرب آسيا ، ذات التراث الحضاري الممتد عبر التاريخ البشري ، لم تفقد أهميتها بعد الفتح العربي ، بل على العكس. فالفتح ترك آثاره على الفاتحين ، كما على سكان البلاد الأصليين. ولا غرو ، فإن مركز الدولة الإسلامية سريعا ما انتقل إلى دمشق ، في قلب بلاد الشام. ونظرا إلى علاقة العرب التاريخية بهذه البلاد ، كما للآثار التي تركها انتزاعها عنوة من أيدي البيزنطيين على مسار الأحداث اللاحقة ، وخصوصا لناحية استمرار الصراع بين بيزنطة لقرون كثيرة ، فقد أصبح الهمّ الأول للدولة العربية ـ الإسلامية الناشئة حسم هذا الصراع ، وبالتالي وراثة موقع بيزنطة العالمي ـ حضاريا وسياسيا. وكان لهذا التحدي أثر فعّال على دور العرب في التاريخ العالمي ، كما في حضارة الجنس البشري.
وبالنسبة إلى فلسطين تحديدا ، فقد أضاف الإسلام ، وبالتالي الفتح العربي ، بعدا جديدا لأهميتها الدينية. فعلاوة على موقع القدس الديني في التراثين ـ المسيحي واليهودي ـ أضفى عليها الإسلام أيضا هالة من القدسية ، باعتبارها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ومنطلق «المعراج» ، الأمر الذي نجم عنه لاحقا إقامة معالم دينية مهمة فيها : قبة الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما. وكذلك ، ففي فلسطين مقامات عدد كبير من الأولياء ، وأضرحة الصحابة الأولين ، وبعض قادة الفتح. وقد تعزز هذا الموقع في العصور اللاحقة ، الأمر الذي أدّى إلى شيوع اسم بيت المقدس بالنسبة إلى إيلياء أو أورشليم سابقا ، والقدس لاحقا ، وإطلاق كنية «الأرض المقدسة» على فلسطين كلها. وهذا الموقع الديني ظل عنصرا رئيسيا في الصراع بشأن فلسطين عبر العصور.
وعلى العموم ، فإن سكان بلاد الشام ، الذين شكّل العنصر العربي الأصلي نسبة عالية بينهم ، وكذلك غيرهم من المحليين ، لم يروا في الفتح العربي تسلطا أجنبيا بالمفهوم السائد. فمنذ زمن طويل قامت بينهم وبين سكان الجزيرة شبكة واسعة من العلاقات القومية والقبلية والدينية والاقتصادية .. إلخ. وزاد في تخفيف الوطأة عليهم السلوك المتسامح ، دينيا واجتماعيا وسياسيا ، الذي سلكه الفاتحون العرب المسلمون إزاءهم ، الأمر الذي جعلهم يرحبون بهؤلاء الفاتحين. والفاتحون بدورهم منحوا السكان المحليين حرية العبادة ، كما خففوا عنهم عبء الضرائب ، وأعطوهم الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم ومعابدهم ، ما داموا يدفعون الجزية ويعلنون الولاء لدولة الإسلام ، أي أن الفاتحين جعلوا هؤلاء السكان على ذمتهم. ومن هنا ـ وعلى عكس العصور السابقة ـ فقد ساد الوئام بين الطرفين ، ودخل الكثيرون في الإسلام. لقد كان الفتح إلى حد كبير بمثابة تحرير وانعتاق للسكان المحليين ، قوميا واجتماعيا. ولا