ومع أن مواقع الحضارة المادية المكتشفة من هذا العصر (الموستيرية) منتشرة في أنحاء الشرق الأدنى ، إلّا إن الهياكل العظيمة التي تمّ العثور عليها لا تزال حتى الآن محصورة في مغاور جبال الجليل. وكان أولها في مغارة الزطية في وادي العمود ، الذي يصب في بحيرة طبرية ، ثم في مغارة الأميرة في مجرى وادي العمود الأوسط ، ثم اكتشفت هياكل متعددة في مغارتي السخول والطابون في جبال الكرمل ، وهما متقاربتان جدا ، الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد أن إحداهما كانت مدفنا لسكان الأخرى في مرحلة ما. وكذلك وجدت هياكل في مغارة القفزة بالقرب من الناصرة. وقد بلغ مجموع هذه الهياكل العشرات ، ومنها ما يحمل ملامح مشتركة للإنسانين ـ النياندرتال والعاقل.
إن الموقع النموذج لآثار إنسان فلسطين القديم هو مغارة الطابون ، في جبال الكرمل الجنوبية ـ الغربية ، وفي جوارها المباشر : مغارة السخول. وقد نقّبت هذه المغارة منذ الثلاثينات من هذا القرن ، وأعيد تنقيبها في السبعينات ، وبسبب الحفريات المنهجية ، أعطت هذه المغارة تراتبية للسويات الأثرية المتواصلة ، منذ الباليوليت الأدنى ، تعلوها ثلاث سويات من الباليوليت الأوسط. وبناء عليه ، فقد ، كشفت اللّقى عن الحضارة اللفلوازية الممهّدة للحضارة الموستيرية ، وهي تمثل المرحلة الأولى والأقدم لحضارة النياندرتال المادية في هذه المنطقة ، ولذلك أطلق بعض العلماء عليها اسم الحضارة الطابونية.
ومهما يكن الأمر ، فالوضع الراهن لمعرفتنا عن إنسان ما قبل التاريخ يشير إلى أن الشرق الأدنى كان في عصر الباليوليت الأوسط مركز الثقل الحضاري والإنساني الأهم. وتدل البقايا الحيوانية في المواقع التي أجريت فيها الحفريات على غنى الثروتين ـ الحيوانية والنباتية. وفي نهاية هذا العصر ، أي قبل نحو ٠٠٠ ، ٣٥ عام ، حدث تغير مناخي جذري ، جعل المنطقة فقيرة في نباتها ، وبالتالي في حيوانها ؛ وهو ما يسميه البعض أزمة الحيوان. وراح الإنسان يقتفي أثر الحيوان نحو غابات أوروبا ، الأمر الذي نقل مركز الثقل الإنساني والحضاري إليها ، كما تكشف عن ذلك الآثار الغزيرة من هذا العصر في أوروبا ، مقارنة بشحّها في الشرق الأدنى في عصر الباليوليت الأعلى.
ج) الباليوليت الأعلى
قبل نحو ٠٠٠ ، ٣٥ عام ، ظهر على المسرح العالمي إنسان جديد ، سرعان ما انتشر في أكثر بقاع الأرض ، وبظهوره دخلت البشرية عصرا جديدا ، يطلق عليه العلماء