حساب الدينية ، من دون إلغائها تماما. فالدين ، وطوال قرون في العصور الوسطى ، وذلك على الجانبين ، كان يؤدي دورا رئيسيا في حياة الناس ، كقاسم مشترك للشعوب المنضوية تحت لواء القوتين العظميين المتناحرتين ـ الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. ولتحريك الناس على الجانبين ، قبل اندلاع الصراع وبعده ، لجأ القائمون على إدارته إلى استثارة العواطف الدينية لحشد القوى وزجها في المعركة. وهذا يبرز من خلال الوثائق على الجانبين أيضا. والأطروحات التبريرية ، من هذا الجانب أو ذاك ، لا تضيف كثيرا لتوضيح القضايا ، بقدر ما تلقي عليها ظلالا من الغموض. والبحث الموضوعي يشير إلى أنه حتى في الحملة الأولى اقترنت الأهداف الدينية بالدنيوية ، وإزاء الحزب الديني كان هناك آخر سياسي. وبالتأكيد فإنه بمرور الزمن وتعاقب الحملات ، نما الطابع السياسي على حساب الديني لهذه الحروب.
إن الحكم على ظاهرة كالحملات الصليبية ، شكلا ومضمونا ، لا يستقيم من دون ربطها بالظواهر الأخرى التي واكبتها زمانا ومكانا ، لاستجلاء دوافعها ومسار تطورها وتبلور نتائجها. وفي هذه الحالة ، كثيرة هي الدراسات من منظور أحادي الجانب ، وبعضها ينطلق محكوما بموقف أيديولوجي مسبق ، يخرجها عن الجدية ، ويضعها في مصاف الأطروحات التبريرية. وإذا كان التاريخ ليس الحقيقة ، أو على الأقل ليس كلها ، فإنه بالتأكيد لا يستوي بتجاهلها ، وإنما على العكس ، يكتسب صدقية أكثر كلما توخاها وبحث عنها. وفي قضية خلافية كالحروب الصليبية ، وإذ تصعب معالجتها بتجرد ، فإن النزعة التبريرية ، أو التعبوية المنطلقة من اعتبارات آنية ، لا تصيب الهدف. لقد نشبت هذه الحروب بحركة تاريخية جدلية وذلك في ظروف الزمان والمكان ، وعلى المؤرخ الكشف عن عناصر هذه الحركة ، قدر المستطاع ، والتقليل قدر الإمكان ، من الإسقاطات الراهنة ، أو المواعظ الأخلاقية والتفسيرات التبريرية.
ويلفت النظر أنه في الكثير من الكتابات عن الحملات الصليبية يغيب دور بيزنطة فيها ، على الأقل في تبلور الفكرة ، ولاحقا في تجسيدها. ولأن الأطراف الفاعلة في الصراع كانت أوروبية غربية ، من جهة ، وشرقية إسلامية ، من جهة أخرى ، فقد جرى إغفال دور القوة الواقعة في الوسط ـ بيزنطة. كما تغيب عن الصورة العامة في معالجة هذه الحملات المقدمات التي مهدت السبيل أمامها. فطوال قرون كان هذا الصراع ، بصورة أو بأخرى ، مستعرا من إسبانيا في الغرب ، مرورا بالبحر الأبيض المتوسط وجزره المهمة ، وصولا إلى الشرق ـ بين بيزنطة والخلافة الإسلامية. وبناء على هذه الخلفية ، لم تكن الحملات الصليبية ظاهرة جديدة إلّا من حيث الإطار