اسم الباليوليت الأعلى ، الذي استمر إلى نحو ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. ، وبه انتهى العصر الحجري القديم. ويسمي المختصون هذا الجنس البشري الإنسان العاقل Homo) (Sapiens ، تأكيدا لصلته المباشرة والقريبة بالإنسان الحالي. وفي هذا العصر ، حقق الإنسان إنجازات تقنية جديدة ، قدمت فائدة كبيرة لنمط حياته ، وأثّرت في تقدمه الاقتصادي ، وأغنت حضارته المادية والروحية.
وينظر المختصون باستغراب إلى ظاهرة أن هذا الإنسان لم يزدهر في منطقة ظهوره ، أي الشرق الأدنى ، وتحديدا فلسطين ، بل هاجر شمالا ، إلى أوروبا ، وهناك أبدع حضارة مادية غنية ، وروحية رفيعة المستوى. وبحسب المعلومات الأثرية المتوافرة ، وهي لا تزال حتى الآن فرضية إلى حد كبير ، تبدلت الأدوار الحضارية في هذا العصر. فبعد أن كانت آسيا وإفريقيا تشكلان مركز النشاط الإنساني الرئيسي في الباليوليت الأوسط ، أصبحت أوروبا هي المركز في الباليوليت الأعلى ، حيث حدثت الإنجازات الكبيرة للإنسان الجديد ، وفي الميادين كلها تقريبا ، بينما ظل الشرق الأدنى هامشيا في هذا المجال.
ولا يتفق العلماء على الأسباب الكامنة وراء هذا التبدل في الأدوار الحضارية لإنسان ما قبل التاريخ ، كما يختلفون بشأن مصير الإنسان القديم الفلسطيني ، بين الانقراض ، أو الاختلاط بأجناس أخرى ، أو الارتقاء نحو الإنسان العاقل. ومن أكثر النظريات رواجا تلك التي تقول بانقلاب مناخي في الشرق الأدنى ، تحوّل فيه من الحار ـ الرطب إلى الحار ـ الجاف ، بما استتبعه من فقر نباتي ، وبالتالي هجرة الحيوان ، وفي إثره الإنسان الصياد ، إلى مناطق الغابات الغنية في أوروبا. وبناء عليه ، فقد أطلقت صاحبة هذه النظرية ـ دوروثي بيت (Dorothy Bate) ـ على الظاهرة اسم أزمة الحيوان.
ويتابع الآخذون بنظرية أزمة الحيوان استخلاصهم فيقولون إنه على الرغم من الازدهار الكبير الذي حققه الإنسان الفلسطيني في الباليوليت الأوسط ، والذي ورثت إنجازاته الجماعات اللاحقة ، فقد برزت في نهايته أزمة اقتصادية ، منهم من يسميها الأزمة الاقتصادية الأولى في تاريخ الإنسان القديم ، وامتدت زمنا طويلا ، حتى العصر الحجري الحديث. وهم يعزون هذه الأزمة إلى التقلبات المناخية ، التي حركت سلسلة من الأزمات الحياتية الدورية ، حلتها الجماعات البشرية في معظم الأحيان بالرحيل ، بينما ظلت مجموعات صغيرة ، طورت حضارتها بما تفرضه أحوال الطبيعة الجديدة ، وما نجم عن ذلك من تكيف في أنماط حياتها وتقنيات صناعة أدواتها. فموجة الحر التي اجتاحت المنطقة تسببت ، أولا وقبل كل شيء ، بفقر الغطاء