النباتي فيها. وبناء عليه ، هجرتها قطعان الحيوانات إلى مناطق نباتية غنية ، وسار الإنسان الصياد في إثرها ، وكما يبدو على شكل قبائل. أمّا من تبقى من تلك القبائل في المنطقة ، فقد وجب عليه الاقتناع بالقليل ، والاعتياد على الأوضاع الجديدة : صيد الحيوانات الصغيرة نسبيا والأسماك ، الأمر الذي أدّى بطبيعة الحال إلى تطوير أدوات الصيد. فهذا التراجع الاقتصادي العام ، ترافق مع ظهور الأدوات الصوانية الصغيرة (Microliths) ، ذات الأشكال الهندسية المتعددة ، التي ركّبت على أنصبة من مواد عضوية كالخشب والعظام والقرون.
ويعتقد العلماء أن الإنسان الذي صنع حضارة الباليوليت الأعلى الراقية ، امتلك صفات جسدية متطورة : دماغا كبيرا لا يقل حجما وأهلية عن دماغ الإنسان الحالي ، وملامح أكثر نعومة ، وهيكلا عظميا شبيها جدا بالذي ينتصب عليه الإنسان الحديث. والواضح أنه كان صاحب يدين ماهرتين ورشيقتين ، بصورة لم يسبق لها مثيل ، الأمر الذي مكّنه من صنع أدوات أكثر تشذيبا من تلك التي صنعها النياندرتال. ويبرز ذلك في صناعة الشفرات الطويلة والجميلة ، التي كانت نتاج تقنيات جديدة ، وعلى درجة عالية من الرقي. وهذه التقنيات تظهر ذكاء ومهارة وخيالا لدى إنسان الباليوليت الأعلى لم تسجّل من قبل ، فوفرت له المزيد من الغذاء.
تميّز هذا الإنسان من سلفه ببناء المساكن ، وإذ لم يهجر المغاور هجرا كاملا ، فإنه تعدّاها إلى إقامة البيوت المستديرة في جوارها. وهذه البيوت ـ كما يظهر ـ عبارة عن أكواخ وخيام ، تقام على مصاطب محفورة ، أو محاطة بالحجارة أو بأكوام التراب. والسقف فيها من جلود الحيوانات ، تقوم على دعائم مائلة ، يشبّهها البعض بخيام الهنود الحمر في أميركا. كما أن هذا الإنسان هو أول من عرف الإضاءة المنزلية مستخدما لذلك سراجا حجريا ، يغذيه بدهن الحيوان. ويقدر الباحثون أن تنوع الأواني المنزلية ، وكذلك تطور أدوات العمل والصيد ، ورقي أغراض الزينة ، تفترض نوعا من التخصص في العمل. وبالتالي قيام المشاغل الحرفية الأولى.
ولعل الإنجازات الأكثر أهمية لإنسان الباليوليت الأعلى في أوروبا ، الذي تفوق على معاصره في الشرق الأدنى ، كما تدل المكتشفات حتى الآن ، تبرز من خلال ميزاته الفكرية والروحية التي لا سابق لها. وهي تتجلى على الخصوص في ميوله الفنية ، التي عبّر عنها بالرسوم الملونة على جدر المغاور العميقة ، والتي تبهر الأنظار بجمالها ودقة تعبيرها ، الأمر الذي يوحي بأهميتها الدينية. والواضح أنه امتلك حسا فنيا ملحوظا في صناعة أدوات الزينة من عقود وأعلاق وأساور ، إذ أتقن نظم الأصداف الملونة ، كما مهر بالحفر على العاج ، واستعمال الأصباغ للأموات والأحياء ، والاعتناء