التفاوض على افتداء بوهيمند ، وبعد أن تمّ ذلك ، رفض تسليم أنطاكيا للإمبراطور. ثم ألحق به السلاجقة هزيمة منكرة في حرّان سنة ١١٠٤ م ، إذ خسر معظم الأراضي التي احتلها في سورية. وفي إثر الهزيمة تحقق بوهيمند من عبثية محاولاته إقامة مملكة نورمانية قوية في الشرق ، وهو بين مطرقة السلاجقة وسندان بيزنطة. فعاد إلى إيطاليا ليجمع جيشا يحتل به القسطنطينية ، وقوبل بحماسة في إيطاليا ، لكن الحملة فشلت ، وهزم بوهيمند ، وأجبر على قسم الولاء للإمبراطور. لكنه عاد ونقض القسم ، ثم مات ، كما مات الإمبراطور ألكسيوس ، وانفتح الصراع بين الطامعين بالميراث.
في المقابل كانت مملكة أورشليم اللاتينية تتوسع في محيطها ، وفي الاتجاهات جميعها. وقد حرك ذلك ردات فعل ، ولّدت حالة من النهوض في الموصل ، شجع عليها عدد من الانتصارات التي حققها حكام المقاطعات ضد إمارات الشمال الفرنجية ، وكذلك الصراع بين هذه الإمارات وبيزنطة. ففي الموصل بدأت حركة (١١١٣ م) لتوحيد الإمارات الإسلامية في العراق وسورية ، من أجل عمل مشترك ضد الفرنجة. ووصلت هذه الحركة ذروتها أيام عماد الدين زنكي (أتابك عساكر الموصل) ، الذي برز (١١٢٧ ـ ١١٤٦ م) واستطاع فرض سلطته على حكام المقاطعات في العراق وسورية ، ما عدا دمشق ، التي تشبث حاكمها باستقلاله ، فظل موضوعيا في الخندق المعادي لعماد الدين ، وبالتالي إلى جانب الصليبيين. وبعمله هذا فتح عماد الدين زنكي مرحلة جديدة من الاشتباك مع الفرنجة ، امتدت إلى أيام ابنه نور الدين زنكي ، ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وصولا إلى المماليك ، الذين على أيديهم تمت تصفية مملكة أورشليم اللاتينية في مدينة عكا (سان جان داكر).
وكانت النتيجة الأولى والمباشرة لتوحيد المقاطعات السلجوقية بقيادة عماد الدين زنكي تصفية إمارة إديسا الصليبية (١١٤٤ م). وبذلك انكشفت الحدود الشمالية ـ الشرقية للإمارتين الأخريين ـ أنطاكيا وطرابلس ـ بينما ظلت دمشق تقف حاجزا بين زنكي في الموصل ، ومملكة أورشليم اللاتينية. وحتى في ظل هذه الأوضاع دأب الفرنجة على التحرش بحاكم دمشق ، والعمل على انتزاع بعض الأراضي منه ، وإقامة إمارات جديدة في بصرى وصلخد (١١٤٧ م). ثم ارتكبوا الخطأ القاتل في الحملة الثانية ، إذ هاجموا دمشق ، فدفعوها إلى أحضان نور الدين زنكي ، الذي دخلها سنة ١١٥٤ م. فأصبح على تماس مع مملكة أورشليم ، بينما هو يستند إلى دولة قوية موحدة في سورية والعراق ، ما عدا الشريط الساحلي وفلسطين. وبذلك دخل الصراع مرحلة جديدة ، قادها نور الدين زنكي بنشاط ، وراح يعد لتصفية الوجود الصليبي في الشرق.