ومعنويا ، الذي حققه صلاح الدين ، وضع الوجود الفرنجي في الشرق في موقع الدفاع عن النفس بصورة عامة ، وبالتالي أطاح بالجهود كلها التي بذلتها أوروبا في إقامة كياناتها في الشرق ، وجعل نتائجها هباء. وبامتلاكه القوة لفعل ذلك ، فقد جعل الحملات الصليبية التالية ، التي لم تتوقف ، لا تتعدى كونها غارات عقيمة. لقد حسم مصير الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي ، فالشرق لا يزال قادرا على القيام بما يلزم لدحر عدوان الغرب وأطماعه. وكانت الحملة الثالثة بعد سقوط القدس (١١٨٩ ـ ١١٩٢ م) تعبيرا عن موازين القوى بين صلاح الدين وأوروبا. وقد اتخذت فعلا هذا الطابع ، إذ من جهة ، كانت حرب دار الإسلام ضد دار الحرب ، ومن جهة أخرى ، حرب أوروبا المسيحية ضد الشرق المسلم. وبهذا المعنى ، كانت حملة ملوك أوروبا الكبار متواضعة النتائج جدا. وانتهت بصلح ، بقيت فيه مملكة الفرنجة على شريط من الساحل ، تصارع بشأن البقاء ؛ بينما انتقل الداخل كله إلى يد صلاح الدين. وبعد حطين أخذ صلاح الدين طبرية ، ثم تقدم إلى عكا ، فاستسلمت بعد مقاومة طفيفة ، وأذعنت مدن الجليل وحصونه ، ثم أخذ نابلس ويافا ، وكذلك بيروت وصيدا ، وظلت صور. وانتقل إلى فلسطين ، تاركا أنطاكيا وطرابلس ، فأخذ الرملة ويبنى ودير البلح وغزة وبيت جبرين وعسقلان. وكان بعض قادته يتحركون في طول البلاد وعرضها ، فأخذوا الناصرة وقيساريا وصفد وصفورية والشقيف وجبل الطور ومعليا وغيرها. وأخيرا جاء دور القدس ، فحاصرها ، ثم ما لبثت أن أذعنت ، وخرج الصليبيون منها بموجب اتفاق ، ودخلها صلاح الدين ، وصلى الجمعة في ٢٧ رجب ٥٨٣ ه / ٢ تشرين الأول / أكتوبر ١١٨٧ م في المسجد الأقصى ، بعد أن أزيلت عنه وعن الصخرة المشرّفة المعالم النصرانية جميعها. وتجمع الصليبيون في ثلاث مدن ساحلية ـ أنطاكيا وطرابلس وصور. أمّا المواقع الصليبية الحصينة في شرق الأردن ـ الكرك والشوبك وغيرها ، فقد سقطت خلال العام التالي.
وإذ يسجل المؤرخون لصلاح الدين هذا الإنجاز الكبير ، وما واكبه من تضحيات ، وما رافقه من بطولات وفروسية ومكارم الأخلاق .. إلخ ، فإن البعض يأخذ عليه عدم انتهاز الفرصة واستكمال المهمة بإسقاط أنطاكيا وطرابلس وصور. ففي صور بالذات ، بدأت الحملة الصليبية الثالثة ، إذ وصلها كونراد دو مونتفرات ، وتولى الدفاع عنها ، فتجمع حوله خليط من المقاتلين ، جاؤوا من المدن التي سقطت في يد صلاح الدين ، ومن جميع أنحاء أوروبا ، جماعات جماعات. فصمد فيها حتى وصلت الحملة الصليبية الثالثة ، بقيادة ملوك أوروبا الأقوياء. وفي أوروبا ، بعد سقوط القدس ، تحرك البابا واستطاع استنهاض ثلاثة ملوك أقوياء : فيليب الثاني (أغسطس) ،