الغابات المتراجعة شمالا بفعل المناخ ، واجه إنسان الشرق الأدنى ظاهرة التصحر والجفاف بتوزيع جديد للسكان ، وتحوّل في نمط حياته ، وتنوع في غذائه ، نجم عن ذلك تطور في حضارته المادية. ويعتبر البعض هذه الفترة ، التي امتدت من ٠٠٠ ، ١٨ سنة ق. م. إلى ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. تقريبا ، فترة انتقالية من اقتصاد الصيد والجمع والالتقاط إلى اقتصاد الإنتاج. ومنهم من يضمها إلى الميزوليت.
ويستخلص الباحثون من دراسات متعددة ـ مناخية وجغرافية وجيولوجية ونباتية وحيوانية وإنسانية ـ أن مناطق صحراوية تكونت في الأردن وفلسطين في هذه الفترة ، الأمر الذي انعكس في توزّع جديد للسكان. وانحصر التوزع الجديد في مناطق تتوفر فيها مصادر الماء والغذاء ، إذ أقام السكان مستوطنات موقتة لجماعات صغيرة من الصيادين. وإزاء نضوب مصادر معيشته ، لجأ إنسان هذا العصر إلى تنويع غذائه ، وأضاف إليه بذور الأعشاب البرية الصغيرة ، والقمح والشعير وغيرها. فأصبحت الحبوب على أنواعها عنصرا مهما في غذائه ، وبالتالي في أدوات عمله التي أصبحت تضم أدوات الطحن ومناجل الحصاد وصنانير صيد الأسماك وغيرها.
وعلى اعتبار أن الحضارة الكبّارية تتبع الباليوليت الأعلى والأخير ، فهي تبشر بإنجازات كبيرة لاحقة ، أبرزها بناء البيوت الأولى التي سكنها الصيادون والملتقطون في المواسم ، إذ إنهم بنوها على شكل حفر دائرية صغيرة ، على السفوح والمنحدرات والمصاطب ، جدرها وأرضها من الطين والحجر ، وسقفها من الجلد والأغصان. وفي النقيب ، على الشاطىء الجنوبي ـ الشرقي لبحرية طبرية ، اكتشف أقدم بناء معروف في بلاد الشام حتى الآن ، يعود بناؤه إلى ما قبل نحو ٠٠٠ ، ١٤ سنة ق. م. وعلى الرغم من التطور الحضاري المادي ، فإنه لا يمكن اعتبار هذا العصر جديدا تماما ، وخصوصا أن الاقتصاد البشري فيه ظل قائما على الصيد والجمع والالتقاط ، وإن بكثافة أعلى.
ومهما يكن الأمر ، فإن نهاية الباليوليت ، والانتقال إلى الميزوليت ، يعنيان أمورا متباينة تماما بالنسبة إلى كل من أوروبا والشرق الأدنى. فبينما آذن غروب الحضارة المجدلانية ، ذات التراث المادي والروحي الغني في الباليوليت الأعلى ، بدخول أوروبا في فترة مظلمة استمرت خلال الميزوليت ، فإنه بشّر في المقابل ببزوغ نهضة جديدة في الشرق الأدنى ، بدأ نبضها في الحضارة الكبّارية ، وبلغ ذروته في الحضارة النطوفية. وتبرز مؤشرات هذا التحوّل في الإنجازات المادية ، التي عقبتها تطورات اجتماعية وروحية. ويعتبر البعض هذه الفترة في الشرق الأدنى منعطفا للحضارة الإنسانية.