ثانيا : العصر الحجري الوسيط
(الميزوليت)
العصر الحجري الوسيط هو مرحلة انتقالية بين نمطين أساسيين من التنظيم الاقتصادي : الأول جمع الغذاء ، والثاني إنتاجه. وبعض الباحثين لا يعتبره عصرا قائما بذاته ، فمنهم من يلحقه ، كمقدمة للثورة الحضارية ، بالعصر الحجري الحديث (النيوليت) ، ومنهم من يقسمه إلى مرحلتين ، فيلحق الأولى بالباليوليت الأعلى لتشكّل نهايته ، والثانية بالنيوليت مشكّلة بدايته ، التي تراكمت فيها الخبرات الإنسانية ممهّدة لما يسمى الثورة الحضارية في النيوليت. وفي فلسطين قامت في هذا العصر حضارة زراعية بدائية ، هي النطوفية ، نسبة إلى وادي النطوف ، في جبال القدس الجنوبية ـ الغربية.
ومرة أخرى ، عاد الباحثون إلى الأسباب الكامنة وراء تبدل الأدوار الحضارية بين أوروبا والشرق الأدنى ، وبرز مجددا التفسير المناخي. فقد تراجع الجليد في نصف الكرة الأرضية الشمالي نحو المناطق القطبية ، وتراجعت مع الجليد الغابات ، وتبعتها الحيوانات المفضلة للصيد ، التي تعقبها الصيادون وخصوصا غزال الرنة ؛ وهكذا اختفت في أوروبا الجنوبية والغربية الحضارة المجدلانية الغنية. أمّا في نصف الكرة الجنوبي ، فمال الجو إلى الدفء ، وظهر غطاء نباتي جديد ، وبالتالي عالم حيواني جديد ، استغل فيه إنسان الشرق الأدنى القديم الأوضاع المناخية المواتية على أحسن وجه ، وطوّر حضارته المادية والروحية.
وهجر هذا الإنسان المغاور والكهوف ، وانتقل إلى السهول والوديان ، حيث نمت أنواع من الحبوب بريّة ، كالقمح والشعير ، وعاشت حيوانات تفضل المناخ الدافىء ، كالغنم والماعز والبقر. وبتفاعل جدلي تقدمي بين إنسان الميزوليت وبيئته ، نظم هذا الإنسان عملية استغلال البيئة بصورة واعية ومتقدمة من سلفه ، فطوّر أساليب عمله انطلاقا من قاعدة أن «الحاجة أمّ الاختراع». واستقر هذا الإنسان بانتقاله إلى مواقع وجود هذه النباتات والحيوانات ، حيث أقام مساكنه البدائية فيها ، وبرمج حياته على أساس الإفادة الدائمة منها ، وأنشأ قرى الصيادين الأولى التي انتشرت في طول المنطقة وعرضها.
وفي مواقع استقراره ، ومع تزايد أعداده ، راح هذا الإنسان يعنى ببناء مساكنه ، ورفع مستوى حياته الاقتصادي والاجتماعي ، عبر تأمين أسباب عيشه في محيطه ، الأمر الذي استلزم تنظيما اجتماعيا ، وتخصصا في العمل داخل الجماعات. وهكذا وفر الشرق الأدنى لهذا الإنسان الموطن الطبيعي المثالي ، من حيث اعتدال المناخ ،