عالية ، ولم تنفع معها محاولات الإصلاح (التنظيمات والفرمانات السلطانية) ، سواء في الجيش ، أو في إدارة الدولة. وتضافرت عوامل خارجية وداخلية لوضع السلطنة في موقع الدفاع عن النفس إزاء الخارج ، و «انفلاش» السلطة في الداخل. فراحت تتراجع أمام أوروبا الناهضة ، في الغرب ، وكذلك في صراعها مع روسيا المحدثة في أيام القيصر بطرس الأكبر ، في الشمال الشرقي ، وتدافع عن أراضيها ضد الأفغان الذين تحركوا من إيران في اتجاه العراق. أمّا في بلاد الشام ، فقد برزت عائلة العظم (الشامية) في دمشق ، وتسلمت الولاية فيها ، برضى السلطان المشوب بالحذر. وفي فلسطين ، برز الزيادنة (ظاهر العمر) ، وبسطت هذه القبيلة البدوية سلطتها على فلسطين وأجزاء من لبنان. وفي مصر استعاد المماليك سلطتهم ، بشخص علي بك الكبير (١٧٦٠ ـ ١٧٧٣ م). وعلاوة على ذلك كله ، فتحت معاهدة كارلوفيتس الباب على مصراعيه أمام الدول الأوروبية لاستغلال التناقضات الداخلية عبر «نظام الامتيازات» ، التي اتسع نطاقها على جميع الصعد.
ثانيا : ظاهر العمر الزيداني
يمثل ظاهر العمر الزيداني ذروة حكم الأمراء المحليين في فلسطين ، واستقلالهم في إدارة شؤونهم الذاتية على رقعة واسعة من البلد ، وذلك تحدّيا للسلطنة العثمانية ، وبالتعاون مع قوى أوروبية ، وعبر سلسلة من التحالفات والصراعات ، مع الأمراء المجاورين أو ضدهم. لقد كرّر ظاهر العمر في القرن الثامن عشر ، ما فعله فخر الدين المعني في القرن السابع عشر. وفي الواقع ، لقي الاثنان في النهاية المصير نفسه ، إذ لم تكن السلطنة العثمانية ناضجة للتفتت بعد. وكان الزيادنة ، وهم قبيلة بدوية ، جاءت من الحجاز واستقرت في الجليل الأسفل ، قد برزوا عبر «الالتزام» ، أي ضمان جباية الضرائب من السكان في بعض المناطق ، لقاء مبلغ مقطوع للدولة. ومن هنا عرف الزعماء المحليون الذين عملوا به باسم «مقاطعجية». وهذا النظام الذي شاع في القرنين السابع والثامن عشر بديلا من الإقطاع العسكري بعد تدني فاعلية الإنكشارية وفسادهم ، أتاح لهؤلاء «الملتزمين» بناء جيوش خاصة مهمتها الحفاظ على أمنهم وجباية الضرائب واستخدامها في الصراع بين بعضهم البعض بشأن السلطة والنفوذ ، ولكن من دون أية فائدة للسلطنة في حروبها الخارجية.
واستحوذت ظاهرة الزيادنة ـ بروزهم وتوسعهم وصراعاتهم مع الجوار والسلطنة وسقوطهم ـ على تاريخ فلسطين في القرن الثامن عشر. وكان ظاهر العمر الشخصية