تشكلت على خلفية حملة نابليون إلى الشرق ، بأهدافها ومنطلقاتها. وإذ كانت بداية موجة جديدة من التوسع الأوروبي الإمبريالي في الشرق الأوسط ، فقد شكّلت بطبيعة الحال ، بداية ردة فعل «نهضوية» في المنطقة إزاء أوروبا وأطماعها فيها. وتعتبر فترة حكم محمد علي باشا في مصر محطة رئيسية في هذا المسار.
رابعا : حملة محمد علي
شهدت فلسطين خلال القرن التاسع عشر تطورات مهمة أدّت دورا أساسيا في تقرير مصيرها في القرن العشرين. فبعد انسحاب نابليون مباشرة ، عادت البلاد إلى حكم الجزار وخلفائه في عكا. لكن سرعان ما بدأ محمد علي (١٨٠٥ ـ ١٨٤٩ م) ، باشا مصر ، بعد انسحاب الجيش الفرنسي منها ، يتدخل في شؤونها ، فعادت مرة أخرى لتصبح بؤرة اهتمام في المسألة الشرقية. وبعد مؤتمر لندن (١٨٤٠ م) ، الذي فرض على محمد علي الانسحاب من بلاد الشام ، وإعادتها إلى السلطان العثماني ، زاد تدخل الدول الكبرى في شؤون البلاد ، عبر ممارسات قناصلها على أساس الامتيازات التي حصلت عليها من الباب العالي. وبعد حفر قناة السويس ، وعودة شرق البحر الأبيض المتوسط لاحتلال موقع مركزي في طريق المواصلات الدولية ، ازدادت أهمية فلسطين الاستراتيجية. وفي هذا الوقت بالذات ، ومع تنامي الحركة القومية العربية ، شهدت فلسطين بداية الاستيطان اليهودي الصهيوني (١٨٨٢ م).
فبعد انسحاب نابليون ، عاد الجزار وفرض سلطته على البلاد. وزاد في عسفه وبطشه ، فأرهق كاهل السكان بالضرائب لتعويض خسائره في الحرب ، وفرض عليهم أعمال السخرة لإعادة بناء ما تهدم من تحصيناته ، الأمر الذي ألحق بهم أشدّ الضرر. لكنه ما لبث أن مات (١٨٠٤ م) ، وخلفه مملوكه سليمان باشا (١٨٠٤ ـ ١٨١٩ م) ، الذي لقب «العادل» ، بالنسبة إلى الجزار ، إذ كفّ عن الجور الذي مارسه سلفه. وتزامن حكم سليمان في ولاية صيدا ، التي كانت عكا قصبتها ، مع حكم مصلحين كبيرين : محمد علي ، في مصر ؛ ومحمود الثاني (١٨٠٨ ـ ١٨٣٩ م) ، في إستنبول. فحاول سليمان محاكاتهما في ولايته ، ونعمت البلاد بفترة من الهدوء النسبي والازدهار والإعمار. في المقابل ، زاد في هذه الفترة تهديد «الوهابيين» لبلاد الشام ، من مركزهم في الجزيرة العربية (نجد) ، الأمر الذي دفع واليي صيدا ودمشق إلى تجاوز خلافاتهما إزاء الخطر الداهم عليهما معا. وبانهماكهما في صدّ هذا الخطر ، أفسح المجال أمام عدد من الملتزمين ، من أبناء العائلات والعشائر الفلسطينية ، للتمرد على الواليين ، فنشبت في أنحاء فلسطين انتفاضات متعددة.