والحيوانات القابلة للتدجين ، الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد أن المنطقة كانت الموطن الأصلي لهذه الأجناس. وهناك الكثير من الدراسات يثبت أن الأصول البرية لهذه النباتات والحيوانات انتشرت بصورة طبيعية في المنطقة التي تضم القفقاز واليونان وهضبة الأناضول وأواسط آسيا وشمال غرب إيران وشمال العراق وبلاد الشام ووادي النيل الشمالي.
أمّا بالنسبة إلى العوامل الإنسانية ، فتدل آثار الحضارة المادية للمجموعات البشرية التي عاشت في الشرق الأدنى القديم ، على أنها حققت إنجازات كبيرة في العصور السابقة ، جعلتها مهيّأة لأن تكون رائدة الحضارة في العصر الحجري الوسيط. ومن هنا ، فالنقلة النوعية التي تحققت عبر الحضارة النطوفية ، والتي امتدت لتغطي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ، وشمال إفريقيا ، وصولا إلى تونس ـ حضارة قفصة ـ هي نتيجة سنة التطور الطبيعي ، ووليدة الحاجات الحياتية المتزايدة التي اقتضتها مستلزمات الحياة لجماعات بشرية مستقرة تتكاثر بوتيرة متسارعة ، من جهة ، وتلبية النزعة الدائمة لتحسين الأوضاع المعيشية لأفراد تلك الجماعات ، من جهة أخرى.
إن فرادة النطوفيين تكمن ـ أساسا ـ في خطواتهم السريعة نحو إنتاج غذائهم ، ثم في الانتقال إلى حالة من الاستقرار ، وتأسيس مستوطنات دائمة في مرحلة مبكرة من الحضارة الإنسانية. وقد أصبح من المؤكد الآن أن الجماعات البشرية النطوفية تميّزت منذ البداية بحركة نزوح من المغاور والكهوف إلى المواقع المكشوفة في أرجاء الشرق الأدنى القديم كلها. وحدث ذلك بالتدريج ، إذ بدأوا بناء منازل بسيطة ، يسهل بناؤها كما يسهل هدمها ، على المصاطب القريبة من الكهوف ، وكانت على العموم مستديرة الشكل ، أسفلها محفور في الأرض على عمق نصف متر تقريبا ، وجدرها وسقفها ، من جذوع الأشجار المغطاة بالأغصان والجلود.
لقد تمّ الكشف عن قرى نطوفية كثيرة ، وفي مواقع متعددة ، تحمل سمات عامة مشتركة ، من ناحية شكل البناء ، أو التعبيرات الفنية ، أو طقوس الدفن ، أو تقنيات صناعة الأدوات الميكروليتية الهلالية ، أو الأدوات الزراعية البازلتية. وتتركز هذه المواقع بشكل كثيف في فلسطين في السهل الساحلي الأوسط ، وفي جبال القدس وسفوحها الغربية. وفي غور الأردن موقعان متباعدان ، غاية في الأهمية : الأول في أريحا ، والثاني إلى الجنوب الغربي من بحيرة الحولة ، في جوار عين الملاحة ، الذي يعدّ الموقع النموذج لهذه الحضارة بعد التنقيبات التي أجريت فيه.
وموقع عين الملاحة القريب من نبع غزير يحمل الاسم نفسه ، هو قرية نطوفية