وتراجع عن وعده. واستغل الزعماء المحليون التناقضات بين الباب العالي ومحمد علي ، وبين واليي صيدا ودمشق ، لزيادة دورهم السياسي ، فقاموا بعدد من التمردات ، بسبب الضرائب الإضافية التي فرضها والي دمشق ، بذريعة تمويل قافلة الحج. وبينما السلطان محمود الثاني مشغول بتصفية الإنكشارية ، ومن ورائهم «الطريقة البكتاشية» الصوفية ، التي كان شيوخها بمثابة المرشدين الروحيين للإنكشارية ، كان محمد علي يعد لحملة على بلاد الشام.
فبعد معركة الإسكندرية (١٨٠١ م) ، وهزيمة بقايا الجيش الفرنسي الذي خلفه نابليون في مصر ، وذلك على يد تحالف إنكليزي ـ عثماني ـ مملوكي ، رابطت في مصر قوات من هذا التحالف. وعلاوة على التوتر الذي أحدثه وجود أفراد هذه الجيوش وسلوكها مع السكان ، فقد اندلع الخلاف بين حلفاء الأمس. وكانت السلطنة العثمانية ، أيام سليم الثالث (١٧٨٩ ـ ١٨٠٧ م) ، تريد استعادة مصر والقضاء على حكم المماليك فيها. في المقابل ، أراد الإنكليز الاحتفاظ بها ، وبالتعاون المرحلي مع المماليك. وعندما أوقع الجيش العثماني بالمماليك ، تدخل الإنكليز ، وفرضوا على الباشا التركي إطلاق الأسرى ، وإعادة ممتلكات المماليك إليهم ، وكذلك سحب الأسطول العثماني من مصر ، وأذعن الباشا للمطالب البريطانية. لكن الإنكليز اضطروا إلى الانسحاب بموجب معاهدة آميين (١٨٠٢ م) ، وتركوا حلفاءهم المماليك تحت رحمة الجيش العثماني ، الأكبر عددا والأفضل عدة. لكن الفرقة بين قادة الجيش العثماني ، سمحت للمماليك بالصمود لفترة ، غير أنهم اضطروا لاحقا إلى الانسحاب إلى مصر العليا ، على حدود النوبة.
وكان في صفوف الكتيبة الألبانية ، من الجيش العثماني الذي أرسله الباب العالي إلى مصر ، ضابط من أصل ألباني ، (ولد سنة ١٧٦٩ م ، في قولة ، من مقاطعة مقدونيا) ، هو محمد علي الذي أظهر في المعارك كفاءة ومواهب ، فأصبح قائد كتيبة. وعندما انخرط في الصراع في مصر ، تطلّع إلى السلطة. فانحاز بداية إلى المماليك ، وبالتعاون معهم هزم الباشوات الأتراك (١٨٠٤ م). وفي انتفاضة القاهرة الشعبية ضد المماليك ، انحاز محمد علي إلى الثوار ، عندما أدرك قوة الحركة الشعبية. ثمّ وقف في الانتفاضة الثانية (١٨٠٥ م) ، ضد خورشيد باشا التركي ، فأصبح سيد مصر الأول. ثم ما لبث أن انقلب على المماليك (١٨٠٨ م) وهزمهم. وفي سنة ١٨١١ م ، قضى عليهم في مذبحة القلعة ، وصادر أملاكهم وأوقافهم لمصلحته ، كرأس دولة. وبذلك أنهى محمد علي حكم المماليك الذي دام أكثر من خمسة قرون. وتبعه بعد فترة محمود الثاني (١٨٢٦ م) بالقضاء على الإنكشارية.