المركزية تقبل بالواقع مرحليا ، حتى تحين الفرصة للانقضاض على الخارجين عليها.
وقد ظل هؤلاء الباشوات خاضعين للسيادة العثمانية ، ما دامت هيبة السلطنة تفرض ذلك. وعندما بدأت تلك الهيبة تتراجع ، راح الباشوات يعززون مواقعهم ، ويفرضون استقلالهم الذاتي في ولاياتهم. وتفاقمت هذه الظاهرة في القرن الثامن عشر ، حيث برز آل العظم في سورية ، وظاهر العمر ، ومن بعده الجزار ، ثم سليمان وعبد الله ، في فلسطين (ولاية صيدا) ، وكذلك كان حال الأمراء المعنيين ، ومن بعدهم الشهابيون في لبنان. وقد استطاع هؤلاء أن يفرضوا سيطرتهم على مناطقهم ، ويحافظوا على درجة من الاستقرار فيها ، وحتى تنمية مواردها وتحقيق ازدهارها الاقتصادي. أمّا في الريف ، وعلى أطراف الصحراء ، فقد برزت قبائل بدوية قوية ، وكذلك عائلات إقطاعية كثيرة ، بسطت هيمنتها على السكان في غياب السلطة المركزية. وبعض القبائل البدوية فرض حمايته على القرى والطرق ، وجبى الأتاوات لقاء ذلك ، وحتى من السلطة نفسها ، وخصوصا لقاء حماية أو تأمين مرور قافلة الحج. وقد تميّزت منطقة الجبال الوسطى في فلسطين بشيوع هذه الظاهرة التي اصطدم بها إبراهيم باشا ، واستطاع إضعافها بعد عدد من المعارك الضارية.
وكان إهمال السلطة العثمانية لولايات بلاد الشام ، والحروب المتكررة بين الباشوات فيها ، وكذلك الصراعات الدامية بين العائلات المتنفذة ، إضافة إلى أعمال النهب والتخريب التي مارستها القبائل البدوية القوية ، قد أفقرت البلاد ، وقلصت عدد سكانها. وفي فلسطين ، كان للصراعات بين الزعماء المحليين ، وخصوصا في منطقة الجبال الوسطى ، آثار سلبية كبيرة على حالة الأمن والاستقرار والأوضاع الاجتماعية عامة. وفترة الحكم المصري القصيرة ، بما جلبته من استقرار ، وما أدخلته من إصلاحات ، لم تستطع كبح هذا المسار التدميري. والثورات التي قام بها هؤلاء الزعماء المحليون ضد إبراهيم باشا ، وهزيمتهم في معارك عنيفة ، جلبت المزيد من الخراب والإفقار على السكان. في المقابل ، أعاد الحكم المصري بلاد الشام إلى بؤرة الاهتمام الأوروبي في إطار المسألة الشرقية. وبعد حفر قناة السويس (١٨٦٩ م) ، زاد التنافس بشأنها ، وبالتالي بشأن فلسطين لقربها منها ، وذلك بين الدول الأوروبية الرأسمالية. وقد قادت بريطانيا عملية تصعيد التنافس ، بعد أن اشترت أسهم مصر في قناة السويس (١٨٧٥ م) ، ومن ثمّ احتلت ذلك البلد (١٨٨٢ م) فأصبحت فلسطين ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إليها. وليس مصادفة أن تتواكب بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين مع احتلال بريطانيا لمصر.
بعد فترة قصيرة من موت السلطان المصلح محمود الثاني (١٨٣٩ م) ، وتولي