الوجود العسكري التركي النظامي في المدن كبح هؤلاء الزعماء عن اللجوء إلى الصدام مع ممثلي الحكومة المركزية ، واتخذت المواجهة بين الطرفين منحى آخر ، جرى التعبير عنه في «المجالس» ، التي أنشأتها السلطة في المدن ، إلى جانب الحاكم التركي.
وإذ لم تكن هذه المجالس جديدة على المدن السورية ، فإن العثمانيين في فترة التنظيمات منحوها سلطات واسعة نسبيا. ومثل هذه المجالس كانت قائمة في المدن السورية الرئيسية قبل الحكم المصري (١٨٣١ م). وكانت تسمى «دواوين» (جمع ديوان). وتضم إلى جانب الحاكم ، المتسلم والدفتردار وكبار ضباط الجيش ، وبعض العلماء البارزين (القاضي والمفتي) ونقيب الأشراف ، وبعض الأعيان. وفي إطار أوسع ، كانت المجالس تضم ممثلي التجار والحرفيين ومشايخ الطرق الصوفية. لكن صلاحياتها كانت على العموم محصورة في تقديم المشورة للحاكم. أمّا إبراهيم باشا ، فقد جعل هذه المجالس ذات صلاحيات أوسع ، كما حرص أن يكون تركيبها أكثر تمثيلا لقطاعات السكان المتعددة من دون استثناء ، فأصبحت بمثابة هيئات مساعدة للحاكم في تصريف الأمور. وكانت تتشكل من الحاكم (المصري) ، وموظفي الحكومة الكبار (المصريين أيضا) ، وبعض الأعيان المحليين وكبار التجار وممثلين عن قطاعات السكان ـ المسلمين وسواهم. وفضلا عن دورها في مناقشة الشؤون الإدارية والاقتصادية والمالية والتجارية الداخلية ، منحت المجالس صلاحيات قضائية في الأحوال الشخصية. أمّا القضايا التجارية والخلافات المالية ، فكانت من صلاحية محاكم خاصة ، تشكلت من تجار كبار ، ومن الطوائف الدينية جميعها.
وعندما عاد العثمانيون إلى حكم بلاد الشام ، أبقوا على المجالس فيها ، ولعلهم نقلوا عنها في الولايات الأخرى. وكانت الحكومة تعيّن أعضاء المجالس من موظفي الدولة الكبار ورؤساء الطوائف الدينية ، فضلا عن ممثلين منتخبين عن تلك الطوائف. وبناء عليه ، كانت المجالس العثمانية حكرا على طبقات المجتمع العليا ، وبالتالي أقلّ تمثيلا ديمقراطيا من المجالس التي أقامها إبراهيم باشا. وبحسب صفتها ، عالجت المجالس القضايا الإدارية والقضائية في الولاية أو السنجق أو الناحية. وتمتعت بصلاحيات واسعة ، إذ إن الأمور جميعها المتعلقة بالإدارة والمال كانت تمر عبر المجالس ، وتنفذ بعد موافقتها ، على الرغم من أنها استشارية في الأساس. وكانت للمجالس صلاحيات قضائية ، باستثناء الأحوال الشخصية ، التي كانت من صلاحية المحاكم الشرعية. وتدرجت صلاحيات المجالس بحسب التراتبية الإدارية ، من