النطوفي ، فقد وجد في جواره ١٤ قبرا من هذا العصر. كما وجد مقبض منجل عظمي ، عليه صورة رأس غزال ، عثر على مثيل له في مغارة كبّارة القريبة. أمّا في مغارة الواد فعثر على لوحة حجرية نحت عليها رأس إنسان مبسّط ، فضلا عن أدوات زينة وخرز وأطواق وأعلاق وحلق مصنوع من الصدف وغيرها.
ولم تتوفر حتى الآن من الشرق الأدنى أية آثار تشير إلى تعبيرات فنية عن قيم دينية قبل العصر النطوفي. غير إنه منذ بداية الحضارة النطوفية ، في الألف العاشر قبل الميلاد بدأت تتجلى عبر المكتشفات الأثرية ملامح فنون النطوفيين ، المعبرة عن معتقداتهم وما يختلج في صدورهم من اهتمامات ، أو ما يتفاعل في نفوسهم من مسائل الحياة ، أصلها ومآلها ، ومن أمور البيئة المحيطة ، وما توفره أو تحجبه ، وما يريح الصانع أو يزعجه. ومن الرسوم والمنحوتات والدمى التي وصلت إلينا ، يبرز الفن النطوفي تصويرا وتشخيصا مبسطا ، تناول الحيوان بصورة عامة ، والغزال بصورة خاصة ، ونادرا ما جسّد البشر.
ويتضح أن النطوفيين أولوا موتاهم عناية خاصة ، ولا يكاد يخلو موقع جرى التنقيب فيه من مدافن للموتى ، جماعية أو فردية ، وهي حفر ضحلة متقاربة ، توضع الجثث فيها مثنيّة وأطرافها مربوطة بألياف الأشجار. وكانت لهم طقوس في الدفن أظهرت رفضهم فكرة أن الموت هو نهاية الحياة ، فزودوا الميت بحاجاته المفترضة ودفنوها معه ، من طعام وسلاح وأدوات زينة. وكانوا يخضبون هذه الجثث ، كأنما يعدّونها لحياة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أنه تم العثور في موقع عين الملاحة على كلب دفن مع صاحبه في قبر واحد. وقد يكون قد تمّ تدجينه في ذلك الحين.
وكشفت التنقيبات الحديثة انتشار الحضارة النطوفية ، وإن ببعض التمايزات المحلية ، من بحر قزوين (مغارة بلط) ، إلى تونس (قفصة) ، مرورا بمصر (حلوان). أمّا في الهلال الخصيب فقد اكتشفت تلك الحضارة في موقعي زارزي وشانيدار في شمال العراق ، وفي عدد كبير من المواقع في سورية : يبرود والكوم (البادية السورية) والحمر (قرب دير الزور) والطيبة (قرب درعا) وجيرود (قرب دمشق) وفي الموقعين المهمين : المريبط وأبو هريرة ، في حوض الفرات. ووجدت أيضا في مغارة جعيتا وغيرها في لبنان ، ومواقع البيضا والعسافات وعين راحوب في الأردن ، فضلا عن عشرات المواقع في فلسطين.
وعلى الرغم من التساؤلات التي يطرحها بعض الباحثين بشأن وجود حضارات متمايزة اجتماعيا واقتصاديا وتقنيا ، وبالتالي من التحفظ على تعميم الوحدة الحضارية في هذا العصر على الشرق الأدنى ، فإن منظورا شموليا يؤكد وجود حضارة موحدة