تحريض فئات اجتماعية وطوائف دينية وقومية على الحكومة المركزية ، وإثارة القلاقل ضدها في مناطق متعددة. وكان المثال الأبرز في لبنان ، إذ عملت فرنسا على تقوية نفوذها هناك عبر العلاقات السياسية والثقافية مع الموارنة ، فردت بريطانيا بإقامة علاقات مع الدروز ، الأمر الذي انتهى إلى القتال الطائفي في جبل لبنان. وفي فلسطين ، دخلت بريطانيا وفرنسا ، عبر قنصليهما في القدس ، على خط الصراع بين الزعماء المحليين في جبال نابلس ، عبد الهادي وطوقان ، وكذلك في جبال القدس ، أبو غوش واللحام. وتبنى قناصل الدول الأجنبية قضايا الأقليات المسيحية بصورة حركت ردة فعل من المسلمين ضدهم. وكذلك بسط هؤلاء القناصل حمايتهم على الجماعات اليهودية في القدس وغيرها ، وكفلوا الإقامة في البلاد للمهاجرين اليهود الأوائل إليها.
ونتيجة تفاقم التنافس بين دول أوروبا الرأسمالية ، وخصوصا بين فرنسا وبريطانيا ، وتواتر الأزمات التي انتابت السلطنة العثمانية ، فأقعدتها عن ضبط الأوضاع في الولايات ، انتشر عملاء تلك الدول في بلاد الشام ، يثيرون القلاقل ، ويدعمون المتمردين بالمال والسلاح. وكان حكام الولايات الأتراك يعون هذا النشاط التخريبي ، لكنهم لم يستطيعوا مواجهته ، لأسباب تتعلق بتأثير قناصل الدول في عواصم الولايات ، كما في إستنبول نفسها. وقد ازداد هذا النشاط بعد حرب القرم. وعلى صعيد العمل بين الطوائف المسيحية ، احتدم التنافس بين فرنسا ، التي تتبنى الموارنة والكاثوليك ، وروسيا ، التي كانت تحمي الأورثوذكس ، باعتراف السلطان منذ معاهدة كوتشوك كاينرجي (١٧٧٤ م). ولموازنة هذا الامتياز الذي تمتعت به فرنسا وروسيا ، عمدت بريطانيا وبروسيا إلى تبني طوائف بروتستانتية صغيرة ، حصلت على الاعتراف بها «ملة» (١٨٥٠ م). كما تذرعت بريطانيا وبروسيا وروسيا والنمسا وفرنسا ، بحماية مهاجرين يهود ، يحملون جنسية تلك الدول ممن وصل إلى فلسطين وعزم على الاستقرار بها.
وبعد خروج المصريين من فلسطين ، ازدادت فيها البعثات التبشيرية بسرعة كبيرة ، وتركزت أساسا في القدس. وفي نهاية القرن التاسع عشر ، كانت نسبة المبشرين إلى السكان في القدس أكبر من نسبتهم في أية مدينة أخرى بالعالم. وإذ عملت هذه البعثات بالتبشير أصلا ، فإن بعضها أقام مؤسسات تعليمية أو طبية أو خيرية. وفي حقل الخدمات الإنسانية ، حققت هذه البعثات نجاحا أكبر بكثير من نجاحها في المجال الديني ، إذ إن عدد الذين غيروا ديانتهم بفعل هذه البعثات كان قليلا جدا ، وانحصر في الطوائف المسيحية الشرقية فقط. لكن هذه المؤسسات ،