وإضافة إلى ما قدمته من خدمات ، فإنها حفزت نشاطا مماثلا لدى الأتراك والسكان المحليين ، فازداد عدد المؤسسات المثيلة في نهاية القرن التاسع عشر. غير أن تلك البعثات كانت تتبع دولا متعددة ، وباحتدام التنافس بينها بشأن النفوذ في أراضي السلطنة ، انخرطت بعثاتها في النشاط السياسي المباشر ، فضلا عن التأثير المداور في نشر الأفكار والعادات والتقاليد.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، احتدم التنافس بين الدول الأوروبية بشأن الحصول على مناطق نفوذ عبر الامتيازات. ولما بدا واضحا مآل الإمبراطورية العثمانية إلى الزوال ، أصبح كل طرف يسعى لتأمين موطىء قدم له فيها ، يناور عبره للسيطرة على جزء من أراضيها عند تقسيمها. واستغلت هذه الدول البعثات التبشيرية للتمهيد لذلك ، ودعمت أعمال المبشرين بالمال. ومنذ معاهدة كوتشوك كاينرجي ، بسطت روسيا حمايتها على الروم الأورثوذكس في أراضي السلطنة ، ووضعت البطريركية الأورثوذكسية في القدس تحت تلك الحماية. كما استعانت حكومة روسيا القيصرية ب «الشركة الروسية ـ الأورثوذكسية» لتحقيق أهدافها السياسية. وبعثة الكنيسة الروسية في فلسطين ساعدت بأموالها على إقامة المدارس والكنائس والنزل وغيرها في البلاد. في المقابل طلبت فرنسا لنفسها حقا مماثلا بالنسبة إلى الروم الكاثوليك ، ولاحقا بالنسبة إلى الموارنة في لبنان ، الأمر الذي تكرس رسميا في معاهدة برلين (١٨٧٨ م). وتبعتها دول كاثوليكية أخرى تطالب بحقوق شبيهة.
وكان عمل البعثات التبشيرية البروتستانتية أكثر تعقيدا ، إذ لم تكن هناك طوائف كهذه تتذرع بها ، فكان عليها أن توجد مثل هذه الطوائف ، وعلى حساب الكنائس الشرقية ، أو أن تقيم مستوطنات لها في البلاد. وقد اشتركت بريطانيا وبروسيا في إنشاء مطرانية بروتستانتية في القدس (١٨١٤ م). ثم توقف الألمان عن دعمها (١٨٨١ م) ، فبقيت لبريطانيا وحدها. وفي أثناء التدخل الأوروبي في الحرب المصرية ـ العثمانية (١٨٣٩ ـ ١٨٤١ م) ، تذرعت بريطانيا بحماية اليهود والدروز ، بينما بسطت فرنسا حمايتها على الموارنة. وعمدت حركة الهيكليين الألمان إلى إقامة مستوطنات (١٨٦٨ م) في يافا وسارونة وحيفا والقدس ، استعملها الإمبراطور ويلهلم الثاني سلاحا متعدد الجوانب للاختراق السياسي. في المقابل أقامت مجموعات «ألفية» أميركية مستوطنات في أرطاس (قرب بيت لحم) (١٨٥٢ م) ، ثم في يافا (١٨٦٦ ـ ١٨٦٧ م) ، ثم في القدس (١٨٨١ م). وهذه الأخيرة ظلت قائمة ، وتحمل اسم المستوطنة الأميركية إلى ما بعد سنة ١٨٦٩ م ، عندما كانت أغلبية سكانها من السويديين.