والانتماء الوجداني إليها ، وهما قديمان قدم التاريخ العربي. أمّا البعض الآخر ، فكان موضوعيا ، يتعلق بتفاعل العوامل التي أوجدت الواقع المحفز على بروز حالة من الوعي للذات ، تتطلب إيجاد صيغ تنظيمية لتجسيدها في ذلك الواقع ، سواء للانسجام معه ، أو لتغييره. وفي جدل العلاقة بين الذاتي والموضوعي في بروز ظاهرة الحركة القومية العربية ، وفي إطارها الحركات الوطنية في الأقطار المتعددة أيضا ، أخذا في الاعتبار الواقع القائم في بلاد الشام في القرن التاسع عشر ، يتضح أن العامل القائد في بعث الوعي القومي من حالة الكمون الوجداني إلى الفعل السياسي العملي ، كان خارجيا. فلم يكن التبلور الذاتي لأوضاع الأمة هو الذي أنتج الوعي القومي ، وما ينجم عن تجسيده من نشاط ، كضرورة موضوعية لمواكبة مرحلة تاريخية في مسار الأمة ، وإنما الواقع الموضوعي المتناقض في حركته مع أهداف الوعي السائد للذات ، هو الذي حفز ردة الفعل على تجليات تفاعل عناصر الواقع ، وانعكاس تلك التجليات على الذات العربية ، وبالتالي ، البحث عن حلول للإشكالات الناجمة عن الجمع بين الأضداد في وحدة صراعية.
إن عهودا من الحكم الأجنبي (السلاجقة والصليبيون والمماليك والأتراك العثمانيون) ، وتفتت الوطن العربي ، قد أضعفت عوامل الوحدة العربية التي تنامت في عهد الخلافة الأول. غير أن الشعور بالانتماء إلى العروبة ، واستعمال اللغة العربية في الحديث والتعبير ، استمرا من دون انقطاع. فالوطن العربي ظل يعرف باسم «بلاد العرب» ، واللغة العربية ظلت أداة التعبير الأدبي والعلمي الرئيسية ، والمفتاح لمعرفة علوم الدين الإسلامي ، حتى في العصر العثماني. لكن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتبلور وعي قومي ، بالمفهوم الحديث ، وبالتالي بروز حركة قومية تدعو إلى استقلال العرب ووحدتهم ، لم تنضج حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي النصف الأول منه ، تشكلت الممهدات الذاتية والموضوعية لبروز الظاهرة على أرضية حملة نابليون ، وما تمخضت عنه من تطورات ، وخصوصا في مجال العلاقات مع أوروبا ، وما نجم عنها من تفاعل سياسي واقتصادي وفكري وعلمي ، معها. ففي إطار التصادم مع أوروبا الحديثة ، وما استتبعه ذلك من تحولات في المفاهيم والعلاقات ، تبلور الوعي القومي العربي في مصر وبلاد الشام ، التي كانت جزءا من السلطنة العثمانية ، آخر الإمبراطوريات الإسلامية من القرون الوسطى. لقد أعطت حملة نابليون دفعة قوية لحركة العلاقات بين الوطن العربي وأوروبا ، بعد فترة طويلة من الركود. فنتيجة هذه الحملة ، عاد الشرق ليحتل موقعا مركزيا في اهتمام دول أوروبا الرأسمالية ، الأمر الذي حكم مسار الأحداث في المنطقة حتى