يومنا هذا. وفي مصر ، وبعد الانسحاب الفرنسي ، استطاع محمد علي أن يثبت أقدامه في السلطة ، ويتجه نحو إقامة دولة عصرية ، بل ويتحدى السلطنة العثمانية. وهذا بدوره حرك مسار «التنظيمات» في تلك السلطنة ، بهدف تعزيز وحدتها في مواجهة عوامل تفتتها القوية. والتحولات في مصر ، كما في السلطنة ، وما نجم عنها من تفاعلات داخلية ، كانت تجري نتيجة تدخل أوروبي متصاعد الوتيرة. فمن موقع الدفاع عن الذات إزاء الهجمة الأوروبية على السلطنة العثمانية ، بما فيها الوطن العربي ، تحركت القوى والتيارات. ومن خلال الاشتباك كضرورة موضوعية ، تبلورت أدوات الصراع ـ المادية والفكرية. ومحمد علي (الألباني الأصل) ، عمد إلى استعمال العروبة كوسيلة لحشد القاعدة الشعبية في المناطق التي أراد إقامة حكمه الوراثي عليها. فقد اعتمد اللغة العربية في إدارة شؤون دولته ، ما عدا الجيش. وابنه إبراهيم أعلن في دمشق عزمه على توحيد البلاد الناطقة بالضاد في دولة مستقلة.
وفي خضم المواجهة الشاملة مع أوروبا ، وعلى أرضية التحولات الجارية في السلطنة في فترة التنظيمات وردات الفعل المتعددة عليها ، تبلورت ثلاثة اتجاهات فكرية في الوطن العربي ، تنطلق كلها في الأساس من موقع الدفاع عن الذات إزاء التغلغل الأوروبي ، من جهة ، وسياسة «التتريك» العثمانية ، من جهة أخرى ، والنتائج الناجمة عن ذلك اقتصاديا واجتماعيا وفكريا. ورأى الاتجاه المحافظ أن تحصين الذات إزاء المؤثرات الخارجية يتم بالتشبث بالقيم التقليدية ، واخضاع السلوك إزاء أوروبا لمقتضيات تلك القيم. في المقابل راح يتبلور ، عبر الثقافة الغربية المكتسبة من مؤسساتها ، سواء في الغرب أو الشرق ، تيار علماني ، رأى مواجهة أوروبا بسلاحها ـ العلم والمعرفة والانفتاح والديمقراطية ... إلخ. وبينهما تيار ثالث ـ الإصلاحي ـ القائل بتطوير التراث ، الديني والفكري والاجتماعي ، كي يتلاءم مع متطلبات العصر ، من دون التخلي عن مرتكزاته.
ومع أن هذه التيارات ـ المحافظ والإصلاحي والعلماني ـ كانت على العموم محصورة في النخب المثقفة ، ولم تكن ملك قطاعات الشعب الواسعة ، فإن الأقرب إلى الجماهير كان التيار المحافظ ، على الأقل خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. أمّا في النصف الثاني ، فقد تضافرت عدة عوامل أخلّت بميزان القوى بين هذه التيارات. وكان تأثير التيار المحافظ قويا في ردة الفعل التي أظهرتها القطاعات الشعبية على الإصلاحات التي أدخلها إبراهيم باشا في بلاد الشام ، وخصوصا ما يتعلق منها بحقوق الأقليات الدينية. فقد رأى قادة هذا التيار في منح حقوق مدنية لغير المسلمين أنه نقض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع والدولة ، تحت تأثير الدول الأوروبية.