إلى درجة كبيرة ، أطلق عليها الاسم الصّدفي ـ النطوفية ، امتدت من النيل إلى الفرات. وتظهر تلك الحضارة فوارق محلية ، بنسب متفاوتة ، أو تفاوتا في مستويات التقدم والرقي ، وهو طبيعة الأشياء نتيجة حياة الاستقرار ، التي لا بدّ من أن تنطوي على درجة من الخصوصية ، من دون أن يغيّر ذلك كثيرا في الأساس ، إذ تلتقي الجماعات البشرية في السمات العامة لنمط حياتها وحضارتها المادية في هذه المنطقة ، خلال هذا العصر.
ثالثا : العصر الحجري الحديث
(النيوليت)
يمثل هذا العصر المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ الحجرية ، أي ما قبل الكتابة ، ولهذا انطوى على ممهدات الانتقال إلى العصور التاريخية ، بكل ما يعنيه ذلك من أهمية لحضارة الإنسان على الأرض. ويعتبره البعض أهم العصور على الإطلاق ، قبل التاريخ وبعده. وليس ذلك إلّا لأنه شهد ثورة اقتصادية واجتماعية كبيرة ، تصعب المبالغة في تقدير أهميتها ، فهي ـ إن جاز التعبير ـ ثورة الإنسان على الطبيعة ، وتحقيق انتصارات مهمة عليها ، في حين أن معظم الثورات اللاحقة كانت ـ إلى حد كبير ـ ثورة الإنسان على الإنسان لتحقيق هيمنة الجزء على الكلّ.
لقد ارتفع في هذا العصر القصير نسبيا ، مستوى التقدم الإنساني الحضاري والمادي والروحي إلى ذرى جديدة. فالإنجازات التي حققها إنسان هذا العصر ، مستندا طبعا إلى تراث أسلافه ، وفرت له المزيد من السيطرة على بيئته. وتحت وطأة مستلزمات المعيشة المتزايدة باطّراد ، وذلك نتيجة نضوب الموارد بالتدريج ، من جهة ، وتزايد العدد السكاني ، مع التطلع إلى توفير أوضاع أفضل لنمط حياة الناس ، من جهة أخرى ، انطلقت ، بفعل النشاط الذهني للإنسان ، سلسلة من التطورات ، اتخذت شكل طفرات ، هي التي اصطلح على تسميتها ثورة النيوليت. وهذه الثورة هي التي وضعت الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف الجذري والأهم في تاريخ البشرية ، والذي يتلخص بالانتقال من الاعتماد الطفيلي على الطبيعة ، إلى الإنتاج المستغل لخيراتها ، عبر الجهد والعمل.
والإنجازات الحضارية التي حققها إنسان النيوليت ، وخصوصا في الشرق الأدنى ، جعلته أقلّ عرضة للهلاك بسبب تقلبات المناخ ، أو شحّ موارد الغذاء. ويعود ذلك ـ أساسا ـ إلى ابتكار الزراعة بفرعيها النباتي والحيواني ، فقد قامت هذه الزراعة ـ عدا الأحوال المناخية والجهود البشرية ـ على العناصر الستة : القمح والشعير والماعز