المادية. أمّا بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية ، وكذلك التعبيرات الفكرية والروحية ، فالمقولات المتداولة هي على العموم فرضيات ينقصها الدليل المادي المقنع.
إن ارتقاء إنسان النيوليت بنمط حياته ، المادي والاجتماعي ، إلى مستوى الحالة الجديدة من الاستقرار ، وما ينجم عنها من مسكن ومأكل وملبس ، وصنع أدوات العمل الملائمة لنمط إنتاجه الجديد ، وابتكار المهارات والتقنيات التي ساعدته على تخطي العقبات إزاء التحديات الجديدة ، جعله موضع اهتمام الباحثين في حقل ما قبل التاريخ. ومرّة أخرى ، تضاربت آراؤهم في تقويم هذا العصر ، ومراحل التحولات فيه ، والأهم ، في تشخيص الأسباب التي أدّت إليه. وإذا كان الإلمام بأحداث هذه الفترة القديمة من التعقيد بمكان ، فإن تشخيص الأسباب الكامنة وراءها أكثر صعوبة وامتناعا.
إن أيّا من العوامل التي تعتمد لتشخيص أسباب النقلة الحضارية الواسعة لعصر النيوليت ، لا يكفي وحده لتفسير الظاهرة ، مكانا وزمانا. كما إن عامل المصادفة لا يمكن ، بل لا يجوز أصلا ، أن يعطى الأولوية بهذا الصدد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عاملي المناخ والبيئة ، بمعزل عن العامل البشري. فتضافر هذه العوامل مجتمعة ، مع إيلاء الإنسان الأولوية ، كعامل فعال في تطوير الحضارة ، يمكنه ـ وحده ـ تقديم تفسير شامل ، وبخطوط عريضة تستوعب الخاص في إطار العام ، وليس العكس ، كما يفعل بعض الباحثين ، وأحيانا لأسباب ليست علمية مجرّدة ، أو منزّهة.
وجميع الدلائل المتوفرة حاليا تشير إلى أن الهلال الخصيب ، وفلسطين تحديدا ، كان مهد الزراعة الأولى. ونشوء الزراعة في هذا الجزء من العالم ، لم يحدث بمعزل عن الأوضاع البيئية والمناخية التي سادت في حينه ، وخصوصا بعد انحسار الجليد في الشمال ، وبداية العصر الدافىء والماطر في المنطقة أولا ، ومن ثمّ الحار والجاف نسبيا. فقد أدّى ذلك إلى حصر توافر الماء في الأودية التي تجرّه من المناطق الجبلية البعيدة ، وبالتالي ، إلى اقتصار القرى الزراعية على الاعتماد على تلك الأودية ، أو على العيش بالقرب من العيون والينابيع. وشجعت الأوضاع التوجه نحو زراعة بعض أنواع الحبوب الموجودة في المنطقة ، والتي كانت معروفة سابقا. وكذلك الحال بالنسبة إلى تدجين بعض أنواع الحيوانات اللبونة والوديعة.
أمّا الشرق الأدنى القديم ، والذي يشكل وحدة جغرافية متكاملة ، كانت مهد الحضارة التاريخية الأولى في المجرى الأسفل لبلاد الرافدين لاحقا ، فقد تضافرت في مرتفعاته وأوديته ومروجه الأوضاع الملائمة في عصر النيوليت للانتقال إلى الزراعة. فالمناخ والبيئة والثروتان : النباتية والحيوانية ، وفرت للمنطقة في المرحلة المذكورة ،