إليها «أبناء إسرائيل» تحت راية «المشيح» في «آخر الأيام». وبناء عليه ، وعلى اعتبار أن التاريخ من صنع البشر ، فإن هذه المقولات الطوباوية لا تمت إليه بصلة.
وفي القرن التاسع عشر ، تضافرت عوامل ذاتية في التجمعات اليهودية الأوروبية ، على قاعدة «المسألة اليهودية» ، وعوامل أوروبية عامة ، في إطار «المسألة الشرقية» لتحرك «الفكرة الصهيونية» ، وتنتقل بها من المجرد إلى الملموس في «المشروع الصهيوني» العملي. وقد تبلورت الفكرة الصهيونية في حاضنة «الأفكار الاسترجاعية» ، التي انتشرت في المناخ الحضاري الأوروبي منذ القرن السادس عشر الميلادي ، وترعرعت في الأجواء السياسية التي سادت أوروبا خلال القرن التاسع عشر ـ أجواء الإمبريالية ـ وخصوصا بعد سنة ١٨٧٠ م. والصهيونية صاغت منطلقاتها الفكرية ، وكذلك سبل ووسائل تجسيد مشروعها العملي ، مستغلة الأزمات الناجمة عن المسألتين ـ اليهودية والإمبريالية. ففي الشق اليهودي ، وظفت الفكر الاسترجاعي ، بطابعه اليهودي الغيبي ، لتطرح نفسها الوسيلة لإخراج اليهود من أزمتهم المتفاقمة داخل المجتمعات الأوروبية. أمّا في الشق الإمبريالي ، فقد طرحت نفسها سبيلا إلى تذليل العقبات الناجمة عن الهدف الإمبريالي في تطويع شعوب المنطقة العربية لإملاءاته ، عبر إقامة مشروع استيطاني ، يشكل مركزا إقليميا مناهضا لحركة شعوب المنطقة في مواجهة الغزو الإمبريالي.
ففي الجوهر ، الصهيونية حركة أوروبية الجذور ، فكرا وممارسة ، إذ نشأت وترعرعت في أجواء القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر. وفي الظاهر ، غطت مقولاتها بخطاب ديني يهودي استرجاعي. ولأنها حركة مفتعلة ومفبركة ، كان لا بدّ من التمويه على الجوهر فيها ، بمزاعم ومقولات زائفة ، سواء لناحية المضمون في الفكرة السياسية ـ «الدولة القومية تحل المسألة القومية» ـ أو لناحية تجسيدها في الواقع عبر الاستعمار الاستيطاني ، الذي سبقتها إليه الدول الأوروبية في بقاع متعددة من العالم. وقد تقدمت الصهيونية بمشروعها على قاعدة الاسترجاع ، من منطلق أسطورة «شعب الله المختار» ، و «أرض الميعاد» ، و «عودة الشعب المختار إلى وطنه». أمّا في الممارسة العملية ، فكان لا بدّ لحركة من هذا النمط أن تعتمد أسلوب «التآمر» السياسي والدبلوماسي ، واستغلال التناقض بين القوى ، لتمرير مشروعها ، ذي الطبيعة المزدوجة ـ اليهودية والإمبريالية.
وفي تقليدها للحركات القومية الأوروبية ، برزت الصهيونية كظاهرة مصطنعة ، إذ لم تتوفر لديها الشروط المسبقة ، أو المقومات الكيانية ، للادعاء بأنها «حركة قومية» ، تسعى لإقامة «دولة قومية» ، وتحقيق السيادة السياسية فيها ، أسوة بالقوميات الأخرى.