والدعوى الصهيونية بوجود «قومية يهودية» هي ضرب من البدعة ، لأنها بانطلاقها كانت تنقصها أهم مقومات الحركة القومية ـ الشعب الموحد والأرض المحددة. فاليهود المنتشرون في جميع أنحاء العالم ، لم تكن بينهم من روابط إلّا العقيدة الدينية ، مع وجود «مذاهب» متعددة بينهم. وفي مسار معاكس تماما لنشوء الدول القومية ، تحركت الصهيونية من «إعلان السيادة» ، وراحت تبحث عن «شعب» تسبغ عليه صفة «الأمة» ، ومن ثمّ عن رقعة أرض ، تجمع فيها بين الشعب والسيادة. وبهذا تكون الفكرة قد تبلورت خارج الشعب والأرض ، ولم تكن تعبيرا عن تطلعات ذلك «الشعب» ، ولا تجسيدا لإرادته القائمة على وعيه لذاته كوحدة ذات خصوصية ، وعلى أرض محددة ، يريد السيادة عليها أسوة بغيره من الشعوب.
وكان طبيعيا أن تعمد حركة من هذا النمط المفتعل ، تدعي الرابطة القومية بين تجمعات دينية مبعثرة في بقاع العالم كلها ، والحق التاريخي على أرض آهلة بسكانها الأصليين ، إلى اختلاق المزاعم ، وتشويه التاريخ والجغرافيا التاريخية في خطابها السياسي. أمّا على صعيد التخطيط والتنفيذ ، فكان لا بدّ من أن تعتمد التآمر والدسائس ، وبالتالي العنف الفاشي لتحقيق أهدافها. فالتجمعات اليهودية التي انتشرت في أنحاء العالم كلها ، لم يكن يجمعها ناظم اجتماعي ، أو اقتصادي ، أو لغوي ، أو تاريخي. والمسألة اليهودية ، التي تذرعت بها الصهيونية ، هي قضية اجتماعية أوروبية ، وبالتالي فحلها الصحيح هو في ذلك الإطار. والدعوى بعدم إمكان اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية ، وبغض النظر عن دواعي هذه الظاهرة ، وعن مقدار صحة تعليل أسبابها بالمنظور الصهيوني ، فهي تقود إلى البحث في الأوضاع التي أدّت إليها ، ومعالجتها في الواقع الذي أفرزها كظاهرة نابية في علاقة التجمعات اليهودية بمحيطها.
ولأن الصهيونية لم تتبلور في صفوف كتلة موحدة من اليهود ، مجتمعة في رقعة جغرافية محددة وتسودها أوضاع اجتماعية ـ اقتصادية متشابهة ، أو متكاملة ، فقد أدّت النخب اليهودية المندمجة فعليا في النظام الرأسمالي الإمبريالي ، دور «المبشر» بهذه الحركة ، وأولا وقبل كل شيء في أوساط اليهود أنفسهم ، الذين كانوا الأشد معارضة للأفكار الصهيونية ، ولمشاريع الاستيطان التي تنطوي عليها. ولم تكن تلك الأفكار ، ولا النخب التي تصوغها وتروجها ، تعبر بصورة حقيقية عن الاتجاهات السائدة في أوساط التجمعات اليهودية ، التي كانت لكل منها أوضاعها ومشكلاتها وتطلعاتها ونشاطاتها. وطرحت تلك النخب نفسها وسيطا بين الفئات السائدة في المراكز الإمبريالية ، وبين التجمعات اليهودية فيها ، التي كانت تعاني أزمة داخلية ، على صعيد