قط تصور إمكان نجاح هذا المشروع بالاعتماد على القوة اليهودية الذاتية. ومن هنا ، الصلة التاريخية بين المشروعين ـ الصهيوني والإمبريالي ـ في المنطقة. في المقابل ، وبغض النظر عن رغبات المراكز الإمبريالية ، وكذلك دور النخب اليهودية المنخرطة في مؤسساتها في بلورة الفكرة الصهيونية وترويجها ، والمشروع الاستيطاني الناجم عنها ، فإنه لو لا أن تهيأت أوضاع التجمعات اليهودية في أوروبا لتقبل الفكرة ، وللانخراط في المشروع عبر الهجرة والاستيطان على أساس القاعدة المطروحة ، لما نهض المشروع الصهيوني بالطريقة التي حدثت.
وهكذا ، ومنذ البداية ، كان للعمل الصهيوني في أساسه شقّان. الأول يهودي ، يقوم على قاعدة المسألة اليهودية كما استوعبتها النخب اليهودية ، وصاغت مقولاتها ، وراحت تبشر بها ، وتجند اليهود للانضواء تحت لوائها ، بقيادة تلك النخب ذاتها. وبذلك ، شكلت تلك النخب الوسيط بين التجمعات اليهودية ، التي تعيش حالة من التوتر والحراك الاجتماعي والجدل الفكري ـ الثقافي ، وبين المراكز الإمبريالية ، التي تعاني أزمة التناقضات الرأسمالية. وبدور الوسيط ، طرحت النخب اليهودية المتصهينة حلولا للأوضاع المتوترة التي تعيشها التجمعات اليهودية ، انطلاقا من مقولات الفكر الأوروبي السائد في القرن التاسع عشر ، وقدمتها لتلك التجمعات بلبوس يهودي ، يحمل طابعا دينيا أسطوريا ، وتهيمن عليه نزعة استرجاعية فريدة في نوعها. وعلى هذا الصعيد ، جرى تفسير المسألة اليهودية بمصطلحات قومية ، وطرح الحل لها من منطلقات قومية أيضا ، يذهب إلى إقامة دولة يهودية ، يتم بناؤها بالاستيطان. فالوعي الصهيوني الزائف للمسألة اليهودية ، أدّى بالضرورة إلى طرح الحل المزيف لها ، قياسا مع مقولة أن «الدولة القومية تحل المسألة القومية.» ولكن اليهودية ليست قومية ، وبناء عليه ، فالمسألة اليهودية ليست مسألة قومية ، وبالتالي فالحركة الصهيونية ليست حركة تحرر وطني كما تدعي لنفسها.
أمّا الشق الثاني للعمل الصهيوني فهو الإمبريالي ، المنطلق من قاعدة الأطماع الإمبريالية في ثروات الوطن العربي وأسواقه التجارية ومرافقه الاستراتيجية. وهذا الشق هو الذي يمد الآخر ـ اليهودي ـ بوسائل الحياة. وفي الواقع ، فإن الدعوات المبكرة إلى إقامة المشروع الصهيوني في فلسطين ، التي أطلقها ساسة أوروبيون ، سبقت تبلور الفكرة الصهيونية عند اليهود أنفسهم. وتفيد المصادر والوثائق أن استجابة اليهود لهذه الدعوات كانت فاترة جدا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أمّا في النصف الثاني منه ، عندما راحت المسألة اليهودية تتفاقم في شرق أوروبا ، وراح الفكر الإمبريالي ينتشر ، بدأ بعض المفكرين اليهود يتقبلون الفكرة بإيجابية أعلى. وتبع