لإنشاء المستعمرات الزراعية في فلسطين. وبادر كاليشر إلى النشاط العملي في تجسيد أفكاره. فخاطب عميد الأثرياء اليهود في العالم آنذاك ، روتشيلد ، في برلين ، ليشرح له نظريته الجديدة عن خلاص اليهود من دون انتظار مجيء المسيح. وقام برحلات متعددة في أوروبا ، يحث فيها اليهود على شراء الأراضي في فلسطين والاستيطان هناك. وقد نجح في إقناع بعضهم ، ممن اشترى مساحات صغيرة في ضواحي مدينة يافا (١٨٦٦ م). كما دفع جمعية الأليانس الإسرائيلية العالمية ، التي تأسست في فرنسا (١٨٦٠ م) ، إلى إقامة المدرسة الزراعية ـ مكفي يسرائيل (١٨٧٠ م) ـ بالقرب من يافا ، وهي أول معهد زراعي يهودي في فلسطين. وقد تأثر بكتاباته المستوطنون من الهجرة الجماعية الأولى إلى فلسطين ـ «أحباء صهيون» (حوففي تسيون).
وتبنى المفكر اليهودي الألماني ، موزس هس (١٨١٢ ـ ١٨٧٥ م) ، أفكار الحاخام كاليشر وطورها إلى «نظرية قومية يهودية ، تقوم على الدين والعرق ، أي على الجنس اليهودي» ، وذلك في كتابه «روما والقدس» ، الذي نشر سنة ١٨٦٢ م. وربط هس بين منظوره لهذه القومية المبتدعة ، وبين الأفكار الرائجة في المراكز الأوروبية الإمبريالية ، وخصوصا في فرنسا. وطعّم خطابه بالألفاظ الاشتراكية العمالية ، التي اكتسبها من صداقته مع كارل ماركس. ولكن هس انقلب على الأفكار الإصلاحية اليهودية ، وهاجم أصحابها بوصفه إياهم ضحية الأوهام العقلانية والخيرية التي اعتمدوها في البحث والتفكير. ولذلك يرى أنهم أخفقوا في إدراك المغزى القومي للديانة اليهودية ، وخصوصا لأنهم أرادوا الفصل بين عنصريها ـ السياسي والديني ـ فحاولوا في رأيه تحقيق المحال. ورأى هس أن الوضع العالمي يشجع الانصراف إلى بناء المستعمرات اليهودية ، عند قناة السويس ، وعلى ضفتي الأردن ، إذ تأتي هذه المستعمرات كخطوة أولى على طريق استرجاع الدولة اليهودية. وأفكار هس هذه أثرت في تيودور هيرتسل (١٨٦٠ ـ ١٩٠٤ م) ، مؤسس الصهيونية السياسية ، والذي صاغ مضمونها ، ووضع أسس هيكليتها ، وبالتالي تجسيدها.
وفي بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر ، حدث الانعطاف الحاسم في العمل الصهيوني ، إذ بدأت هجرة المستوطنين اليهود الجماعية إلى فلسطين ، وراحت أعدادها تتزايد ، وموجاتها تتوالى ، قبل قيام إسرائيل (١٩٤٨ م) وبعده. وعرفت الموجة الأولى (١٨٨٢ ـ ١٩٠٣ م) باسم «أحباء صهيون» ، وانطلقت بين يهود روسيا ، ومن ثمّ انتشرت في دول أوروبا الشرقية. ويعتبر مؤرخو الصهيونية سنة ١٨٨٢ م نقطة تحوّل في تاريخ الصهيونية ، إذ تضافرت عوامل عدة لحفز هذه الحركة ، أهمها موجة