الأوضاع الملائمة لإنسان النيوليت لحل المشكلات الحياتية التي واكبت انتقاله من الترحال إلى الاستقرار ؛ والأكيد أنه أفاد من الإنجازات الحضارية المادية التي ورثها عن أسلافه ، وتحديدا النطوفيين ، الذين هجروا المغاور ، وأقاموا القرى في العراء ، حيث تبلورت ، إلى جانب الصيد ، بدايات عملية الزراعة وتدجين الحيوانات.
ويرى الكثيرون من الباحثين أن هذا الانعطاف الزراعي كان وليد الحاجة ، وجاء حلّا لأزمة اقتصادية ، نجمت عن تحوّل المناخ نحو المزيد من الجفاف ، جعل إنسان النيوليت يواجه هذه الأزمة بالبحث عن حلّ لها ، بدلا من الاستسلام لها بالرحيل. وقد نجح في توجهه هذا بفضل تضافر عوامل بيئية ، من جهة ، ومستوى حضاري مادي ودرجة من الوعي والتنظيم الاجتماعيين ، من جهة أخرى. والأكيد أن تزامن هذه التحوّلات المناخية مع ابتكارات حضارية مهمة ، لا يمكن أن يكون مصادفة ، ولا بدّ من وجود علاقة جدلية بينهما. فمن دون التناغم البيئي مع المستوى الحضاري ، وبالتالي قدرة الإنسان الفكرية على صوغ علاقة جدلية تقدمية بينهما ، لما حدثت هذه الثورة النيوليتية ؛ وهي بالتأكيد لم تحدث بصورة انقلابية حادة.
فضلا عن التفاعل بين إنسان النيوليت وبيئته ، لا بدّ من إيلاء أهمية خاصة إلى التفاعل بين الجماعات البشرية التي استقرت ، أي العلاقات الخارجية ، وإلى التناغم الاجتماعي داخل تلك الجماعات ، أي العلاقات الداخلية. فالجماعات المستقرة حددت بالضرورة مجالا حيويا لها ، وبالتالي صاغت نمطا من العلاقات مع الجوار ، سلما أو حربا. وفي الوقت نفسه ، راحت مع الاستقرار تصوغ علاقات داخلية ، أخذت بالضرورة منحى جديدا من التعاون والتنظيم وتحديد الحدود بين العام والخاص والاحتراف والتخصص ... إلخ. فالاستقرار ، ولضرورات ذاتية ، وقيود خارجية تفرضها كثافة انتشار القرى وتخومها الحيوية ، فرض على هذا الإنسان أن يبحث عن حلول للمشكلات التي تواجهه نتيجة التقلبات المناخية في الرقعة التي يسيطر عليها ، وليس بالردّ العفوي كما كان يفعل في السابق ، أي بالرحيل إلى مواقع أخرى ، سعيا لمصادر الغذاء. وبهذا يكون الاستقرار وضع قيودا داخلية وخارجية على حياة التنقل ، وأسّس لتشكل المجتمعات الحضرية.
وعندما فقد هذا الإنسان حرية التجوال بحسب فصول السنة ، بين المنخفضات والمرتفعات ، وأصبح مرتبطا بالجماعة التي يعيش بين ظهرانيها ، وبالرقعة التي راح يراكم فيها ثروته المادية ، ويقيم فيها بيته ، وينمي قطيعه ، ويزرع قطعة أرضه ، فإنه دخل مرحلة جديدة في حياته. وقد واجه إنسان النيوليت المشكلات الاجتماعية للحياة الجماعية في القرية الزراعية ، فكان لا بدّ من تشكيل سلطة ، من فرد أو أكثر ،