تضبط العلاقة بين أفراد الجماعة ، وكذلك العلاقة بين الأفراد ورقعة الأرض التي يسيطرون عليها ، وأيضا العلاقة بالجماعات المجاورة ، أي حكومة بدائية. والأكيد أنه مع توفر الفائض من الإنتاج المادي ، فتح الباب على التجارة ، أكان ذلك داخل الجماعة أم بين الجماعات المتجاورة ، القريبة منه أولا ، ثم البعيدة ، والتي اتخذت بالضرورة صيغة التبادل البضاعي.
ومن مجمل ما يتوفر لدينا من معلومات عن هذا العصر يتضح أنه كان إبداعيا في نواح عدة. فحياة الاستقرار والزراعة أصبحت أكثر رقيّا ، وتطلبت أنواعا جديدة من الأدوات المصنوعة بتقنيات أعلى ؛ كما أن حياة الجماعة استلزمت المزيد من التخصص والتنظيم ، سواء على مستوى الفرد أو المجموع. أمّا فائض الإنتاج فقد حفز التجارة ، وبالتالي التواصل بين الجماعات ، وما ينجم عنه من تبادل الخبرات وانتشار المبتكرات. كل ذلك تواكب بالضرورة مع صوغ المؤسسات وتطويرها لتلبي حاجات الجماعة الداخلية والخارجية. ومع المؤسسات جاءت مجموعة القيم ـ الأيديولوجيا ـ والمعتقدات بشأن الكون المحيط والديانة والحقوق والواجبات ، وبالتالي القانون والحكومة والدولة.
وإذ شكّل مجتمع النيوليت نقلة نوعية في حياة الإنسان ، لكنه حتما لم يكن نهاية المطاف ، إنما على العكس ، كان أقرب إلى خط البداية في تشكّل الحضارات القديمة. وكما في كل البدايات ، لم تكن العملية سهلة. فنمط الحياة الجديد تطلب مزيدا من النشاط والعمل ، كما استلزم درجة أعلى من التخطيط والبرمجة ، وبالتالي المعرفة. فالخروج إلى الصيد في الموسم شيء ، والعناية بالقطيع المدجّن : من رعي وسقي ومراقبة وحراسة وعناية ... إلخ ، شيء آخر. كما إن التوجه إلى مواقع نمو النباتات البريّة في الموسم لحصادها وجمع محاصيلها ، هو غير زرع بذورها وتولي العناية بها حتى تؤتي ثمارها. وبالنتيجة ، سواء كان ذلك عن وعي مسبق ، أو من خلال الاستيعاب بالتجربة والخطأ أو بالتخطيط أو بالمصادفة ، فقد فرضت الحياة الجديدة الكثير من البرمجة لضبط إيقاعها ، الأمر الذي استوجب تراكما معرفيا متزايدا. ومع ارتقاء المجتمعات تنوعت النشاطات ، فكان لا بدّ من تقسيم العمل : زراعة وصناعة وتجارة ، حتى وإن لم ترسم بينها حدود بيّنة. ومع التخصص ارتفع مستوى التقنيات ، ومع تنوع النشاطات في إطار وحدة الجماعة ، كان لا بدّ من تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ، ومن وضع الأسس للأعراف والقوانين ، وبالتالي صوغ الأيديولوجيا والمعتقدات. كل ذلك استوجب من إنسان النيوليت استغلال طاقاته الذهنية ليكون بقدرته الاستجابة للتحديات ، الأمر الذي تمخض عن تراكم معرفي.