البلد. لكن النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أبرز أهمية فلسطين الاستراتيجية ، وخصوصا بعد حفر قناة السويس ، ومن ثمّ شراء بريطانيا أسهم مصر فيها ، وبالتالي احتلالها البلد بأكمله (١٨٨٢ م). ومنذئذ ، تعززت أطماع بريطانيا في فلسطين ، وراحت حكومتها ، وخصوصا وزارة المستعمرات فيها ، وتحت إلحاح موظفيها في القاهرة ، تنظر إلى فلسطين كخط دفاع عن مصر وقناة السويس.
وعبر العصور ، تبدلت الأسباب التي أعطت لفلسطين أهميتها في حسابات القوى المتصارعة للهيمنة على الشرق الأوسط. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، عادت المواصلات الدولية لتبرز أهمية فلسطين الاستراتيجية. وقد دفع تنامي الرأسمالية الأوروبية ، في مرحلتيه ـ التجارية والصناعية ـ إلى تطور وسائل النقل وطرق المواصلات. وحتى بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح ، لم تتلاش أهمية البحر الأبيض المتوسط ، وشرقه تحديدا ، في المواصلات الدولية. فقد ظلت السفن الصغيرة تفضل الإبحار في المتوسط الهادىء نسبيا ، على المغامرة في مياه الأطلسي المائجة. ولكن المنعطف الكبير وقع بعد حفر قناة السويس ، في فترة كانت فرنسا تتمتع بالأفضلية في مصر ، فتعزز موقعها هناك أكثر ، الأمر الذي أثار بطبيعة الحال قلق بريطانيا ، وصولا إلى الإقدام على احتلال مصر. ونظرا إلى ما جرّه ذلك من انعكاسات في إستنبول ، فقد تغيرت سياسة بريطانيا تجاه سلامة ووحدة أراضي السلطنة. وبعد فترة طويلة من استقرار السياسة البريطانية على مبدأ الحؤول دون تفتيت السلطنة العثمانية ، بدأت لندن تبدل وجهة نظرها ، وتضاعف جهودها لتوسيع مناطق نفوذها ، انطلاقا من اقتناعها بأن هذه المناطق ستصبح مستعمرات في المستقبل القريب.
وبعد أن احتلت بريطانيا مصر ، تبنت سياسة فرنسا أيام محمد علي بالنسبة إلى بلاد الشام ، أي السيطرة عليها ، أو على الأقل جنوبها ، كخط دفاع عن مصر. واصطدمت سياسة بريطانيا هذه بالوجود الفرنسي ، الذي ضرب جذورا عميقة في لبنان ، ومنه سعى للتمدد في الاتجاهات جميعها وبالتالي العمل على حصر النفوذ البريطاني في مصر ، وبذلك اكتسبت فلسطين مزيدا من الأهمية. وبريطانيا ، التي أرادت في أيام بالمرستون إقامة كيان سياسي يهودي في فلسطين لمحاصرة التمدد الفرنسي عبر محمد علي ، صارت الآن تريد إقامة هذا الكيان للدفاع عن قناة السويس ، أو لمحاصرة النفوذ الفرنسي في لبنان. وباقتراب نهاية القرن التاسع عشر ، اتخذت المنافسة بين بريطانيا وفرنسا طابعا ماليا اقتصاديا. وراحت الدولتان توظفان مبالغ كبيرة في المشاريع الاستثمارية داخل أراضي السلطنة. إضافة إلى القروض للخزينة