مطلقة في بلاد الشام. فأعلن الأحكام العرفية ، وألغى مجالس الولايات والمحاكم المدنية ، وأبطل الاستقلال الذاتي لجبل لبنان ، والامتيازات التي أعطيت للطوائف الدينية المتعددة بحسب الاتفاقات مع الدول الأوروبية. وانتهز حالة التململ العامة لقمع الحركة الوطنية والتنكيل بقياداتها ، وعمل على مكافحة النشاط السياسي والثقافي العربي ، وسعى لفرض التتريك بالقوة. واشتدت أعمال القمع بالتوازي مع تصاعد التذمر بين قطاعات السكان الواسعة ، وخصوصا بعد تجاهلهم دعوة السلطان إلى الجهاد ، بل مقاومة التجنيد ، والفرار من الخدمة وأعمال السخرة. وراحت ردات الفعل العنيفة تندلع بصورة عفوية على سياسة جمال باشا ، وسلوك جيشه ، وما يقوم به من أعمال السلب والاعتداء على السكان وحرماتهم ، ومصادرة محاصيلهم وأملاكهم ومواشيهم ودوابهم ، وقطع أشجار بساتينهم وكرومهم.
وعلى أرضية النزعات الاستقلالية لدى سكان الولايات العربية في السلطنة العثمانية ، والتناقضات التي برزت بين الحركتين القوميتين ـ العربية والتركية ـ جاءت الحرب لتزيد في تفاقم العداء العربي للحكم العثماني. وإزاء ردات الفعل العفوية العنيفة ضد سلوك الجيش التركي ، شدّد جمال باشا من إجراءاته القمعية على السكان ، فدخلت العلاقة بينهما في لولب متصاعد من احتدام التناقض وارتفاع حدة المواجهة. واضطر جمال باشا إلى فرز نصف جيشه لقمع المقاومة المحلية. لكن جزءا كبيرا من وحدات ذلك الجيش كانت من أبناء الولايات العربية ـ أكراد وعراقيين وسوريين ـ لم يلبثوا أن انحازوا إلى مواطنيهم. فبرزت الاتجاهات المعارضة للحرب داخل الجيش ، وبالتالي اتساع نطاق ظاهرة الفرار منه ، والتقاعس عن القيام بالمهمات ، وصولا إلى التمرد. ففي سنة ١٩١٥ م وقعت تظاهرات في المدن السورية والعراقية (النجف وكربلاء). وفي سنة ١٩١٦ م انتفضت حامية الموصل ، التي كان أفرادها من العرب ، كما نشطت مفارز مسلحة بالعمل ضد الجيش التركي في جبل العرب (الدروز) ، وشمالي لبنان ودمشق. وراح هذا الوضع يتطور نحو «الثورة العربية الكبرى».
أ) المشاركة العربية في الحرب
في بداية الحرب ، انقسمت الحركة القومية العربية بين معاد للدول الأوروبية ، وبالتالي منحاز إلى السلطنة العثمانية ، على أمل الحصول منها على الاستقلال بعد الحرب ، وبين معاد للسلطنة ، منحاز إلى الدول الأوروبية ، على أمل تحقيق الاستقلال بمساعدتها بعد الحرب أيضا. لكن هذا الانقسام تلاشى خلال الأعوام