ساحلية وجبلية وصحراوية ونهرية وغيرها. لكن الموقع الذي أولي الأهمية المطلقة لفرادته هو أريحا ، في جوار البحر الميت. ففي تل السلطان ، موقع أريحا القديمة ، القريب من عين السلطان ، توجد آثار المدينة الوحيدة المعروفة حتى الآن في العالم ، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل ٩٠٠٠ عام. وهذه المدينة المسوّرة ، سبقت ب ٤٠٠٠ عام أيّ استيطان مديني معروف حتى الآن. ولذلك فهي تشكل أحجية أثرية ، تثير الكثير من التساؤلات التي لم يتفق الباحثون على الإجابة عنها ، أو على تقديم تفسير متماسك ومنطقي لازدهار مدينة كهذه في ذلك الزمان والمكان.
فأريحا ، التي ينخفض موقعها (تل السلطان) نحو ٢٧٥ م تحت سطح البحر ، وحيث معدل هطول الأمطار لا يزيد عن ١٠٠ ملم سنويا ، والتي تدين بقيامها وبقائها للنبع المجاور ، عين السلطان ، هي ظاهرة فريدة ، ليس في الشرق القديم فحسب ، بل في العالم أيضا. فقد عاصرتها مستوطنات وقرى زراعية كثيرة في جميع أنحاء الهلال الخصيب ومصر ، إلّا إنه لم تكتشف حتى الآن في هذه المنطقة ، آثار مدن محصنة قبل الجزء الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد ، في حين يعيد الباحثون أسوار أريحا إلى الألف السابع قبل الميلاد. وهي بذلك ، ولكبر حجمها وعدد سكانها الذي يقدره البعض ب ٣٠٠٠ نسمة ، تطرح الكثير من الأسئلة بشأن نشوئها وازدهارها ومصادر ثروتها ، ونظامها الاقتصادي ـ الاجتماعي.
ولأسباب موضوعية ، أي فرادة الظاهرة ، كما لأخرى ذاتية ، أي أعمال التنقيب الواسعة والمنهجية التي أجريت فيها ، فإنّ أريحا تعدّ الموقع النموذج الأرقى لهذا العصر والذي يمكن من خلال المعلومات التي يوفرها تتبّع مراحل الانتقال من النطوفية (الميزوليت) ـ القرية المفتوحة ـ إلى المدينة المسوّرة (النيوليت) حتى العصور اللاحقة وبصورة متواصلة ومتكاملة. فقد ساهمت أوضاع أريحا البيئية الخاصة ، بتطورها إلى مدينة بوقت مبكر جدا ، بينما ظلت المستوطنات في مواقع أخرى ، صغيرة ، كما هو الحال في موقع وادي فلاح ، حيث تحتل قرية صغيرة مصطبة محدودة عند مدخل المغارة. ويعزو بعض الباحثين ازدهار أريحا إلى اشتغال أهلها بالتجارة ، وخصوصا بمستخرجات البحر الميت : الملح والقار والكبريت.
ويتميّز موقع أريحا بآثاره العمرانية ، إذ كشف عن منازل مؤلفة من غرفتين وأكثر ، مبنية من اللبن المسطح المحدّب وجدرها مائلة إلى الداخل ، وهو ما يشير إلى أن سقوفها كانت مقببة. لكن أهم ما يثير الانتباه في الموقع في هذا العصر المبكر هو الأبنية الحجرية الواسعة ، والسور الذي يقوم عليه برج عال. وتشير الدلائل إلى أن هذه التحصينات الضخمة بمقاييس العصر ، صمّمت منذ البداية لأغراض دفاعية.