حركة الأطراف. وهذه الحركة كانت بطبيعة الحال محكومة بالأهداف التي يرمي إليها كل طرف منخرط في الصراع ، من جهة ، وباعتبارات الواقع المتشكل من الجمع بين تلك الأطراف في وحدة صراعية متحركة ، من جهة أخرى. وسيرورة هذا الصراع محكومة بقدرة كل واحد من أطرافه على تجسيد أهدافه في الواقع المتطور. فحكومة الانتداب ، وإذ كان تجسيد وعد بلفور أحد أهم مرتكزات حركتها السياسية ، فقد كانت لها اعتبارات خاصة ، إقليمية ودولية ، وضعت بعض الضوابط على اندفاعها في دعم المشروع الصهيوني من دون النظر إلى حساب الكلفة والمردود. والحركة الصهيونية ، وإن راحت تبلور أهدافها ، وتصوغ مؤسساتها ، وتسارع إلى إيجاد واقع يمهد السبيل أمامها ، فقد اصطدمت بعقبات ذاتية وموضوعية ، حالت دون تمكينها من تحقيق أغراضها بالسرعة المرغوبة. والحركة الوطنية الفلسطينية ، التي كانت في موقع الدفاع ، لم تستطع توليد فعل كاف لصدّ الهجمة الصهيونية ـ الإمبريالية عليها ، لكنها ردّت بأشكال متعددة من النضال ، قطعت على الطرفين الآخرين طريق الوصول إلى أهدافهما بالسرعة التي خططا لها ، وبالشكل الذي بادرا إلى تنفيذه.
وإذ لم يستطع أحد من هذه الأطراف حسم التناقض لمصلحته ، وبالصيغة التي أراد ، فقد استمر الصراع ، بين مدّ وجزر ، متخذا مستوى من الحدة ، يتناسب ، بهذه الدرجة أو تلك ، مع مستوى احتدام التناقض المتولد في عملية الصراع الجارية ، والناتج عن تجليات مفاعيلها. وبينما كانت حكومة الانتداب منحازة استراتيجيا إلى المشروع الصهيوني ، فإنها على الصعيد التكتيكي لم تتطابق تماما مع نشاط المنظمة الصهيونية العاملة على تجسيده كما ترغب ، وبالتالي توظيف حكومة الانتداب في هذا السبيل. وبصورة عامة ، حاولت تلك الحكومة استيعاب الحركة الوطنية الفلسطينية وترويضها بأشكال متعددة. لكن القيادة الصهيونية أرادت قمع المقاومة الفلسطينية ، بكل الوسائل. وإذ لم يمتلك الاستيطان الصهيوني القدرة ، أو الأدوات ، لتطويع الحركة الوطنية الفلسطينية ، فقد طالبت قيادته حكومة الانتداب القيام بذلك ، من دون أن تقيم وزنا للاعتبارات البريطانية أحيانا. وسواء لأسباب ذاتية ، أو نتيجة قراءة معينة لموازين القوى ، فقد سلمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالانتداب ، لكنها اعترضت على سياسة حكومته. وإذ خفضت من حدة مطالبتها بالاستقلال ، فقد ركزت جهدها على التصدي للمشروع الصهيوني ، ونجحت في حالات معينة ، مستفيدة من التعارضات التكتيكية بين سياستي حكومة الانتداب والحركة الصهيونية.
ففي إطار سياستها المرتكزة على وعد بلفور ، وضعت بريطانيا فلسطين تحت انتدابها ، ليكون في قدرتها تجسيد ذلك الوعد. ثمّ صارعت لوضع حدود «فلسطين