وانسجاما مع سياسة «الهجوم من أعلى» التي انتهجتها المنظمة الصهيونية ، فقد سارعت إلى تشكيل المؤسسات التي اعتقدت أنه من خلالها يمكن تجسيد مشروعها الاستيطاني. فبدأت بتنظيم جهاز السلطة ـ الوكالة اليهودية بأطرها التنفيذية والتشريعية. ومن ثم أقامت مؤسسات تهويد فلسطين وتمويله ، وكذلك وبالتعاون مع سلطات الانتداب ، شكلت إدارة ذاتية لشؤون المستوطنين ، كانت بمثابة حكومة خاصة داخل الحكومة العامة. كما بدأت بتشكيل منظمات إرهابية مسلحة ، لتدعيم سياستها الاستيطانية بالقوة العسكرية. ومع ذلك ، فقد ظلت إنجازاتها في فلسطين متواضعة خلال العشرينات. ويعود ذلك أصلا إلى أنها لم تكن مهيّأة للسيطرة على البلد ، حتى بمساعدة الانتداب. فقد كانت تعاني نقصا بالطاقة البشرية ، وعجزا بالموارد المالية ، الأمر الذي وضع أحيانا علامة استفهام على صدقيتها وفاعليتها ، حتى في نظر القريبين منها.
أمّا العامل المهم الآخر الذي اصطدمت به الصهيونية في سعيها لتجسيد مشروعها ، وبسرعة ، فهو المقاومة العربية العنيفة ، التي لم تكن تتوقعها ، ولم تعد لها العدة. وحاولت أن توظف سلطات الانتداب في قمعها وإخضاعها ، وبصورة فظة ، أملتها عليها تطلعاتها المفرطة في غلوائها ، من جهة ، وعدم أهليتها الذاتية لتجسيد تلك التطلعات من جهة أخرى. وإذ لم يكن في قدرتها تهويد فلسطين باليهود ، فقد ارتأت تحقيق ذلك الغرض بتغييب شعبها عنها. فمارست الأوساط الصهيونية ضغوطا على حكومة الانتداب للتضييق على العرب الفلسطينيين لتهجيرهم. وقامت وسائل الإعلام الصهيونية بحملة واسعة لتغييبهم حضاريا وثقافيا ، وحتى لنفي وجودهم المادي الجسدي ، وتشويه وجههم الحضاري بتحميلهم وزر ما لحق بالبلد من خراب ، وأنها أصبحت صحراء قاحلة تستصرخ المستوطنين لإعمارها ، كما ادعت أبواق الإعلام الصهيوني. وكان كلما زاد تواطؤ سلطات الانتداب مع الأهداف الصهيونية ، وتحرك الطرفان لتجسيد وعد بلفور ، ولّد ذلك ردة فعل مضادة من جانب العرب الفلسطينيين ، وزاد في احتدام التناقض بين الطرفين في حركة لولبية متصاعدة ، الأمر الذي رفع حدة المواجهة بينهما ، وصولا إلى الثورة.
سادسا : الطريق إلى الثورة
لقد تضافرت جهود حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين ، مع النشاط الصهيوني الاستيطاني المحموم لتهويدها ـ الأرض والشعب والسوق ـ على جعل ثورة السكان العرب المحليين مسألة حتمية. والشروط الموضوعية لمثل هذه الثورة